My Account Sign Out
My Account
Old wooden type on a wooden shelf

كريستوف فريدريش بلومهارت

ChristophFriedrichBlumhardt2
  • قسيس كره التديُّن الزائف
  • مُبَشِّر رفض التبشير بالإكراه المعنوي
  • سياسي فقد الثقة بالسياسة
  • المحراث هو المصدر الرئيسي لكتابات بلومهارت المترجمة إلى العربية
كان كريستوف فريدريش بلومهارت Christoph Friedrich Blumhardt (1842- 1919م) إنسانًا حقيقيًّا وصادِقًا مع نفسه للغاية. فلم يكُن من السهل ‏أن نجد أوجه التشابه بينه وبين غيره سواء كان ذلك من الناحية اللاهوتية أو السياسية أو أيِّ ناحية أخرى. ولم يحسَّ بالانتماء إلى مكان ما — لا في الكنائس ولا في الأوساط العلمانية. وكان مصدر إزعاج لكل من المسيحيين وغير المسيحيين على حدٍ سواء. وبدا لو أنه يتحدى الجميع. ومع ذلك، كانت لديه ثقة عجيبة حقًّا في التاريخ الذي يصنعه الله؛ ثقة ألهمت وأججت الرجاء لدى الكثيرين، ولا تزال تفعل ذلك حتى يومنا هذا.  اِقرأ سيرته الذاتية الكاملة

لم يكُن لدى كريستوف بلومهارت نظريات، وبالتأكيد لم يكُن لديه «لاهوت.» وبدون أن يؤسس مدرسة أو يرغب في جذب تلاميذ له، فقد أشار إلى اتجاه كان له أثَرٌ واضحٌ على هؤلاء الذين جاءوا بعده. فقد كان بلومهارت ‏وراء حركتين قَبَلاه على أنه مِن مؤسسيها دون أن يكون له اتصالٌ مباشر بهما، وهما الحركة الاجتماعية الدينية (في سويسرا وألمانيا)، وحركة اللاهوت الجدلي «Crisis.» وقد أثَّرت أفكاره على ليونهراد راجاز،[1] وأيضًا على كارل بارت،[2] وعلى أميل برنر،[3] وعلى ديتريش بونهوفر،[4] وعلى آخرين غيرهم لاحقًا، مثل هارفي كوكس،[5] وجاك ايلول،[6] ويورجن مولتمان.[7] وهؤلاء كلهم عمالقة لاهوتيون يمكن لكريستوف بلومهارت أن يرى نفسه غريبًا بينهم، لأنه لم يكُن لديه أيُّ فكرة عن احتمالية انبثاقهم وعملهم.

وهناك حركات اليوم مثل كنيسة الكرمة التي تَعتبر كل من كريستوف بلومهارت وأبيه من أكثر الشهود المقربين لها، أيْ أنهما اللذان بدآ بصنع الآيات والمعجزات هناك. ففي كريستوف بلومهارت لدينا إظهارٌ لقدرة الملكوت المصحوبة بالتوبة. وهي القدرة التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الكثير من الحركات الخمسينية والكاريزمية.

ورغم مواهب كريستوف فريدريش بلومهارت إلاَّ أنه غير معروف عند الكثير من القراء. وكتابه هذا هو الكتاب الوحيد المنشور باللغة العربية. فرغم أن الكثير من الجهود قد بُذلت في الماضي للإعلام عن كريستوف فريدريش بلومهارت، إلاَّ أنها كانت دون جدوى. فلم يعرفه إلاَّ قليلون وذلك على عكس معاصريه مثل تشارلز فيني،[8] وويليام بوث.[9]

وفي مقالة كتبها فيرنارد ايلر،[10] للمجلة الأمريكية The Christian Century في عام 1969م، اعتقد فيرنارد ‏فيها أن من بين أسباب عدم شهرة كريستوف بلومهارت هو أن رسالته لم تكُن أدبية ودراسية بالدرجة الكافية لكي يقتبس منها الآخرون. ففي كتابه Thy Kingdom Come: A Blumhardt Reader الذي نشرته دار Eerdmans، 1980م، حاول فيرنارد أن يُصحِّح هذا، ولكن الكتاب لم يُلَاقِ اهتمامًا كبيرًا للأسف.

لكن ربما يكون هناك سبب أساسي. فقبل كل شيء، كانت حياة بلومهارت مصدرًا للغضب والإثارة. فقد عَبَّر عن أفكاره بعبارات مؤثِّرة. وقد أثارت عباراته الصدمة والسخط، لأنها سارت عكس التيار لكُلٍ من الكنيسة والعالم. فقد كان مثالاً لشيء مختلف عَمَّا نفهمه نحن بصفة عامة على أنه المسيحية. فكما كتب يوهانَّس هاردر،[11] في إحدى المرات: «لو أراد شخص أن يجعل كريستوف بلومهارت يتوافق ويجد محلاً في تاريخ اللاهوت، فربما يضعه في الملحق الخاص لكتاب ‹تاريخ الهرطقة› الذي كتبه جوتفريد آرنولد.[12]»

لقد كان بلومهارت مقتنعًا كل الاقتناع بأن أعظم خطر على تقدم الإنسان هو «الديانة المسيحية» — أيْ بمعنى ديانة يوم الأحد التي فصلت الوجود المادِّي عن الوجود الروحي، وأقامت طقوسًا وشعائر للاهتمامات الأنانية، أيْ جعل الذات في مركز للاهتمام، وتبعث على الرضا الذاتي، أيْ أن المرء لا يحتاج إلى تغيير حياته والتوبة باستمرار، وغيرها من صيغ التديُّن الدنيوية، بدلاً من أفعال البِرِّ والاستقامة العملية الملموسة.

لم يهتم بلومهارت بالأمور المتعلقة بالديانة والكنيسة، وخدمات العبادة والتعاليم الكنسية ولا حتى بالسلام الداخلي أو الخلاص على الصعيد الشخصي فقط. فقد كان الإيمان في نظره أمرًا يَتعلَّق بمجيء ملكوت الله، وبانتصار الله على الظلمة والموت، هنا على هذه الأرض وفي هذه الساعة. وكانت رؤيته لبِرِّ الله على الأرض بلا شروط، وكانت رؤية مؤثرة للغاية، ومفادها أن: محبة الله تصالح العالم، وتحرر من الألم، وتشفي الاحتياج الاقتصادي والاجتماعي، أيْ باختصار، إنها تُجَدِّد الأرض.

بدت رسالة بلومهارت للكثيرين بأنها ذات طابع عولمي بدرجة خطيرة وخالية من التوقير. وفي الحقيقة، عادته الكنيسة الرسمية في أيامه بإلقاء الشكوك عليه، والافتراء والطعن. فقد ضربت رسالته على الوتر الحسَّاس الذي لا يزال طريًّا اليوم.

لم يكُن هدف بلومهارت التهجُّم مطلقًا. إلاَّ أن ملكوت الله استحوذ تفكيره بالكامل — الملكوت الذي يعني سيادة كل من سلام وعدل المسيح المليئين إبداعًا على وجه الأرض كلها. فهذا الملكوت ليس دستورًا رسميًّا ولا شيئًا مثاليًّا، ولكنه حركة تنتمي إلى المستقبل وتضرم بنارها بالحاضر. وإنه التاريخ الحقُّ للبشرية، وسيكون مُنتصِرًا دائمًا في النهاية. ويتواجه الملكوت ويضع تحت المحك كل شيء تم التفكير فيه أو التخطيط له أو بناءه، وهو يتعارض مع كل المؤسسات وكل الصُّرُوح وكل الأيديولوجيات. ويطلب الملكوت دائمًا الأمر المختلف، والجديد، ويجمع بين دفتيه الحياة بأكملها.

وإنَّ مثل تلك النظرة الواسعة لعمل الله الفدائي تضرب بشدة على قيود المسيحية التقليدية. وهذا يمكن أن يكون السبب الحقيقي وراء عدم انتشار فكرة بلومهارت، رغم أنها قد تبدو فكرة قوية فعلاً بالنسبة إلى القِلَّة المُهِمَّة من الناس.

سنرجع لهذا الموضوع الخاص بالملكوت، ولكن قبلما نفعل هذا، يجب أن نفهم أولاً كم كان ملكوت الله ملموسًا وحيًّا عند بلومهارت. فلم يكُن بلومهارت شخصًا خياليًّا. فقد تنامت فكرته جراء تجربته وليس جراء اللاهوت. وكان ملكوت الله أمرًا حيًّا عنده، وليس فكرة مجردة. فقد تهلَّل كيانه وامتلأ فرحًا بما عاشه ورآه شخصيًّا.

ويجب على المرء أن يرجع إلى والد بلومهارت، يوهان كريستوف بلومهارت (1805 – 1880م)، لكي يقدر أن يفهم هذا الأمر. فقد كان والده راعي كنيسة موتلينجن Möttlingen، وهي بلدة صغيرة على حافة الغابة السوداء Black Forest وقد تبع في عمله الأسلوب نفسه الذي يستخدمه أيُّ راعي كنيسة ريفية، إلى أن لَقِيَ ذات يوم امرأة تحمل اسم جوتليبين ديتوس Gottliebin Dittus. وجوتليبين هذه عانت من مرض ربما يُشبِه سطوة الأرواح الشريرة التي يصفها لنا العهد الجديد (الإنجيل). وقضى بلومهارت الأب الكثير من الشهور يراقب بكل أسى آلام تلك المرأة وعذابها المتزايد. فشعر بأن هناك شيئًا مظلمًا شريرًا يعمل فيها، فقرر أخيرًا خوض المعركة مع قوى الظلمة. وفي العام الذي وُلد فيه ابنه كريستوف، عام 1842م، صرخ الوالد قائلاً: «لقد رأينا الكثير مما يمكن أن يفعله الشيطان، دعونا نرى الآن قوة الرب يسوع المسيح.» فشن حربًا على معاقل الشيطان هناك استمرت عامين. فاندحرت أخيرًا قوى الظلمة، وانتصر باسم يسوع. وأخرج الأرواح الشريرة. وشُفيت جوتليبين تمامًا من كل المآسي الروحية والجسدية. وانتهت الحرب بكلمات الانتصار من شفتيها: «يسوع منتصر، يسوع منتصر.»

ونتيجة لذلك الانتصار، انتشرت حركة عارمة من التوبة. واجتاحت أبرشية بلومهارت كلها، وامتدت إلى المدن والقرى المجاورة. فأخذ الناس يتدفقون من كل حدب وصوب إلى بلومهارت الأب. وتمكَّن هذا التدخُّل الإلهي الذي قامت به قدرة الملكوت من تغيير قرية موتلينجن بأكملها. إذ حصلت هناك العديد من حالات الشفاء الروحي والحياتي واعترافات بالخطايا واهتداءات. والتأمت الزيجات، وتصالح الأعداء. وتجسَّد أمر جديد وعجيب من عالم الله، وفرض سيطرته. ومنذ ذلك الوقت، لم يكُن كلام بلومهارت الأب سوى «يسوع منتصر!» ففي هذا العالم العجيب والمؤثِّر ترعرع الابن كريستوف.

ولأسباب عديدة، زادت تدريجيًّا معارضة بلومهارت الأب ولاسِيَّما من جانب القساوسة والسُّلُطات الكنسية الرسمية. فقد تذمَّر رجال الدين المحليين نتيجة لنزوح أهالي أبرشياتهم إلى كنيسة بلومهارت. وسرعان ما امتلأ بيت القسيس بلومهارت، ولم يَعُدْ قادرًا على استيعاب وضيافة تلك الأعداد من الناس الذين بدأوا يتدفقون إليه. فبدأ يبحث عن مكان آخر أوسع لكي يحصل فيه أيضًا على المزيد من الحرية. وعندما كان كريستوف في العاشرة، انتقلت عائلته إلى منطقة تدعى «باد بُل Bad Boll،» وهي عبارة عن مجموعة من الأبنية الكبيرة التي أقيمت سابقًا لتكون منتجعًا سياحيًّا حول مياه شلال. فقامت عائلة بلومهارت بتحويرها إلى ما أشبه بمركز روحي، أيْ بمعنى مكان يأتي إليه الناس لكي يحصلوا على فترات من الراحة والتأمُّل والدراسة والمشورة الرعوية، ومكان حيث يمكن لبلومهارت الأب أن يكون حُرًّا، لكي يعمل وفقًا لإرشاد الله له.

قضى بلومهارت الأب بقية حياته في باد بُل، وقضى ابنه أيضًا معظم فترة حياته هناك. وقصد آلاف من الناس بلومهارت الأب ‏لكي يحصلوا على الشفاء الكامن في انتصار المسيح، ذلك الانتصار الذي ‏اختبره كريستوف أيضًا وجعل منه أساسًا له. ولا عجب في أن اختبارات أبيه الرائعة قد حُفِرت عميقًا في نفس كريستوف، لتدفعه إلى الأمام في الطريق ذاته.

وفي باد بُل وجد كريستوف الصغير نفسه في وسط تدفُّق مجاميع من الناس التي كانت تطلب المساعدة؛ مجاميع من طبقات وجنسيات ودول مختلفة؛ ووجد نفسه أيضًا في وسط جهاد أبيه المتواصل والمحتدم في صراعه من أجل ملكوت الله. وشعر كريستوف لاحقًا بأنه هو أيضًا مدعوٌّ للخدمة. وبعد مضي عدة سنوات سُمِح له بأن يساعد أبيه في الخدمة الرعوية. وعندما دعاه والده إلى باد بُل ليعمل مساعدًا له، كان كريستوف يريد أن يجعل من نفسه شخصًا نافِعًا في المنزل بمعظم الأساليب الوضيعة، ربما كمساعد طباخ أو ما إلى ذلك. ولسبب ما، لم يكُن لديه اليقين نفسه الذي امتلكه والده. إذ كان عليه أن يخوض هو شخصيًّا الصراع الذي خاضه والده. ولكن بموت جوتليبين ديتوس في عام 1872م أصبح هذا الحدث نقطة تحوُّل بالنسبة إليه، وبالنسبة إلى كل العائلات في باد بُل. وقد أخذت هذه التجربة كل فرد هناك إلى اختبار جديد من التوبة العميقة، وبعثت في نفس كريستوف ثقة متجددة لدعوة الله له. وكانت كلمات والده الأخيرة من على فراش الموت في عام 1880م قد فوَّضتْ كريستوف لحمل الراية من بعده، قائلاً: «أُعطيك بركةً للانتصار.»

تَوَلَّى كريستوف بلومهارت مُهِمَّة عمل والده ببالغ الوداعة والتواضع. وتسلَّح بالروح نفسه الذي كان عند والده، أيْ الروح القدس. فشَهِد هو أيضًا قوات عجائبية عظيمة من الروح القدس. ولكن بلومهارت لم يتوقف عند هذه الوقائع، فبالنسبة إليه، كان لابد وأن يثبت أن الإنجيل مليء بالحياة، مما دفعه هذا لكي يسلك طُرُقًا أخرى غير تلك التي سلكها والده. ولم يمضِ وقت طويل حتى ترك الكنيسة المؤسساتية تمامًا. وكان خروجه بناء على رغبته إلى حدٍّ ما، وكذلك بناء على رغبة السُّلُطات في الكنيسة هناك. وأخيرًا، وبكثير من الصراعات، تمكَّن من قطع كل الأواصر بينه وبين كل الأشكال الخارجية السطحية للحياة الكنسية، والثوب الكهنوتي. إذ كان للاهوت والطوائف الدينية وحتى شتى أنواع نصوص قوانين الإيمان المعنى نفسه بالنسبة إليه: فكلها قائمة على رموز وترتيبات وكبرياء بشرية — ألا وهي الجسد.

شعر كريستوف بلومهارت بخيبة أمل أيضًا بسبب الاهتمام المستمر الذي يوليه الناس بموضوع الشفاء الجسدي. وكما حدث في زمان يسوع، هكذا أصبحت «المعجزات» في زمان بلومهارت أمرًا رئيسيًّا يجذب الناس إلى باد بُل. إلاَّ أن ‏كريستوف بلومهارت حارب هذا الأمر، وكان مُصمِّمًا على أن يُبعِد باد بُل عن أن تصبح معهدًا للإيمان بالشفاء الجسدي فحسب. وكتب مرة خطابًا ردًّا على شخص طلب منه ‏المعونة، فقال له: «هناك أكذوبة تحوِّل اتجاه كل شيء إلى تسخير نعمة الله ورحمته بطريقة بحيث ‏يصبح عندئذ المُخَلِّص مجرد خادم لنا لتلبية طلباتنا.» فبالنسبة إلى كريستوف بلومهارت، يُعتبَر التغلُّب على المرض أمرًا ثانويًّا في ملكوت الله. فقد قال مرة: «إنَّ التطهير الروحي أهم من الشفاء الجسدي‏.»

ولم يبدأ كريستوف بلومهارت بإعادة النظر بِجديَّة في الاتجاه الكامل لعمله إلى أن رأى ذات يوم الضَّجَّة التي سببها هو بعد رحلاته الإرسالية إلى ألمانيا وسويسرا. فبعد عودته من برلين في مارس 1888م لم يترك بلومهارت نشاط الوعظ العام فحسب بل ترك أيضًا شفاء المرضى. فقد شعر بأن أولئك الذين كانوا يتدفقون إليه قد أساءوا فهمه، فقد قال: «إنني آسف جدًا، لأن الناس يقولون إنني واعظ شهير. أمَّا أنا فلا أريد أن أكون خطيبًا أمامكم. فأنا لست بخطيب على الإطلاق، ولا أريد أن أكون كذلك. فكل ما أريده هو أن أكون شخصًا يلمس وجود الله ونعمته ويكون له علاقة حيوية معه. ولا أريد أن يتحدث الجميع عن تلك الأمور، ولا أريد الوقوف أمامكم سوى شاهد لله!»

لقد آمن كريستوف بلومهارت ‏بأن امتلاك قلب نابض لقضية الله هي أهم علامة أكيدة لملكوت الله، فلا يهم كم أعداد الحشود أو حصول الشفاء أو عدم حصوله. إذ إنَّ محبة الله في نظر بلومهارت لا تحمل أثقال وحاجات النفوس فحسب بل تمتد أيضًا إلى هؤلاء الذين يعيشون في غياهب الفقر. وأخيرًا، صار قلب كريستوف ‏بلومهارت مُشفِقًا على الناس من جراء خطايا وشقاء العالم. ونشأت في داخله رغبة عارمة لعدالة الله، وقاده هذا إلى إدراك أوسع للبؤس والفقر وعدم المساواة من حوله في ألمانيا وفي العالم. ولهذا شعر بصوت الله في الحركات الجديدة الثائرة والمحتجة على الظلم والرأسمالية والحرب. ورأى ظمأ الناس إلى الأمل في الحركات الاجتماعية الكبيرة في أيامه. فقد قال: «إنَّ صراع الملايين في زماننا هذا ليس من قبيل المصادفة. فهو يَتعلَّق بصراع الرسل نفسه — فهذه هي علامات ربنا يسوع المسيح.»

في كتب الأنبياء، نرى أنه حتى الشعوب الوثنية مثل الآشوريين والبابليين والفارسيين والملوك الوثنيين مثل نبوخذ نصر وكورش كانوا في خدمة الرب. لذا بدأ كريستوف بلومهارت يتساءل لماذا لا يمكن للحركات الاجتماعية التي تهدف إلى مساعدة البشرية أن تخدم أيضًا كأداة في يد الله. ورغم قصور الحركات الاجتماعية إلاَّ أن بلومهارت رأى أن المسيح كان بالتأكيد مُختبِئًا فيها.

وعلى خُطى والده، تزايد اهتمام كريستوف بلومهارت بواقع المجتمع المعاصر. وأخيرًا ترك «المجالس المقدسة» في باد بُل وذهب إلى الشوارع لكي يدعم حركة العمال، التي أرادت أن يكون صوتها مسموعًا. فستتوقف باد بُل عن أن تكون «مكانًا للمواعظ» لكي تصبح «مكانًا للحياة الحقيقية.» ووقف بلومهارت وحده فعلاً بين الناس في الكنائس وفي داخله هذا الشعور باحتياجات هذه الجموع. وعندما انضم إلى حزب الديمقراطيين الاجتماعيين (وناب عنهم في برلمان فورتمبيرغ Württemberg من عام 1900 – 1906م)، بدا الأمر كما لو أنه كان في المنفى. إذ طلبوا منه أن يترك مكانته الرعوية الكنسية في ولاية فورتمبيرغ. فقد اعتبرته الكنائس التقليدية شخصًا مطرودًا لأنه اشترك في السياسة. وقَبَلَ بلومهارت الأمر واعتبره تحرُّرًا، وقال: «إنَّ الدولة والكنيسة المؤسساتية، لا تُعتبران تربة خصبة لنيران الله.»

إلاَّ أن نظرة بلومهارت الخارجية في تلك السنوات لم تُعلِّق الآمال على الحركة الاجتماعية فقط. فبالنسبة إليه، كان كل ما يتحرك وينبض في الجموع وكذلك في الطبيعة يأتي تحت نور الملكوت. ورأى بلومهارت الكثير من المعجزات في العلوم والاقتصاد التي يمكن أن نقبلها على أنها رسائل لعصر به الكثير من التغيُّرات. وسعى إلى قراءة علامات الأزمنة؛ وكان مقتنعًا بأن المسيح أراد أن يقتحم أوضاع وأحوال العالم لكي يحرِّر الذين انغمسوا في قواه الفاسدة.

كانت الأصالة في الحياة الروحية بالنسبة إلى بلومهارت تعني الالتزام الاجتماعي. فإذا تغلغل ملكوت الله في كل الخليقة، فلابد عندئذ أن نشهد للملكوت هكذا: «يأخذ ملكوت الله اتجاهات واسعة في هذه الأيام. ويجب أن نخرج من حجراتنا الصغيرة ومن عزلتنا ومن تَقوقُعِنا. إذ يأتي الملكوت إلى الشوارع حيث يعيش أفقر الفقراء، والمنبوذين، والبائسين. فإلى هذه الأماكن يأتي ملكوت الله. فهو يمتد إلى السماء والجحيم وإلى كل الناس.»

هذا الملكوت هو كل شيء فيما عدا الديانة المظهرية الباطلة. وبالتأكيد، فإنَّ الملكوت هو ليس ما يُعرف بالديانة المسيحية الاسمية. لقد آمن بلومهارت بأن الأنبياء ويسوع المسيح أرادوا عالمًا جديدًا؛ سيادة الله على كل الواقع. ومن وجهة نظر بلومهارت، فإنَّ الخلاص على الصعيد الشخصي، والتركيز على السماء، لم يكونا ما يرمي إليهما التاريخ. فلم يكُن الله مهتمًا بأن نصل إلى السماء، ولكنه كان مهتمًا أكثر بأن تأتي السماء إلى الأرض. فقد قال بلومهارت مرة: «يتوق كثيرون إلى السماء، فيمتدون إلى السماء، وأودُّ أن أخبرهم بهذا: دعوا عقولكم تصل إلى الأعالي التي نريد أن ندركها على الأرض. فقد ظهر يسوع هنا على الأرض، ولم يظهر عاليًا في العالم غير المرئي؛ ويريد يسوع أن يظهر هنا على الأرض مرة ومرات. ولَعَلَّنا نؤمن به هنا على الأرض.»

إنَّ الفكرة القائلة إنَّ الله هو في السماوات فقط، وإنَّ تطبيق الإنجيل ينحصر هدفه لأجل الحياة الروحية للفرد، كانت كارثة وفقًا لبلومهارت. فيجب أن لا نطلب البركات علينا أولاً، بل نطلب ملكوت الله أولاً. ولا نطلب منفعتنا أولاً بل نطلب إكرام الله أولاً، في الدنيا والآخرة‏. أو كما لَخَّص مرة «ليونهارد راجاز» أفكار بلومهارت قائلاً: «من الديانة إلى ملكوت الله، ومن الكنيسة إلى العالم المُفتدى، ومني إلى الله.» وهذه الرؤية الشاملة قادت بلومهارت ليعود إلى باد بُل أخيرًا.

لم يكُن بلومهارت سياسيًّا بالمعنى المعروف للكلمة، لكن الظروف دفعته إلى الانضمام رسميًّا، إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي، إلاَّ أنه لم يرد في الأصل أن يكون عضوًا سياسيًّا ‏عاديًّا في الحزب. ورغم أن الحزب قَبَلَه بأحضان مفتوحة، إلاَّ أنه لم يجد على المدى الطويل أن الحزب يدعمه ليكون شاهدًا للإنجيل، فقال: «إنَّ الحركة الاجتماعية كما نراها اليوم لا تزال تنتمي إلى العالم الفاني. وهي لا تحتوي على الشركة الأخوية للبشر مثلما تلك التي سوف تأتي يومًا ما من خلال روح الله.» لذلك رجع بلومهارت إلى باد بُل ليخدم كامل رسالة المسيح. وأصابه لاحقًا مرض خطير لمدة طويلة. أمَّا في عام 1917م، فأُصِيبَ بلومهارت بجلطة؛ ورقد بسلام بعدها بعامين في 2 أغسطس 1919م.

لم يتراخَ بلومهارت في حربه على البنية الكنسية التقليدية الاسمية — وعلى الديانة المسيحية العقائدية المؤسساتية — لأنه كان مشغولاً تمامًا بحلول مُلك الله. فبالنسبة إليه، تتعارض بشارة الملكوت هذه مع كافة أشكال التديُّن السطحي. وتطلب تغييرًا جذريًّا وثورة في كافة مجالات الحياة. ولم يكُن يسوع مُعلِّمًا لمذهب معين أو مثالاً إلهيًّا على الفضيلة السماوية فحسب، بل أيضًا عَلَّم وعاش عالم الله الجديد في آن واحد. وافتتح عصرًا جديدًا، ألا وهو مجتمع جديد مؤسس على عدل الله وعلى قدرته على شفاء الروح والحياة. وإنَّ المجيء الأخير للرب يسوع المسيح ما هو سوى إتمام لِمَا بدأه الرب. وقد حسم موته على الصليب الحرب مع قوى العالم القديم، وأصبحت قيامته الفجر المنتصر للعالم الجديد الآتي — وبداية لعصر جديد في التاريخ، وصباحًا جديدًا في الخليقة — وعودة الرب هي اكتمال الخليقة.

ورغم سوء الفهم والمعارضة إلاَّ أن بلومهارت كان رجلاً ذا رجاء ثابت. فكان الإنجيل بالنسبة إليه أنباء سارَّة عن أيام المسيح القادمة. «المُخَلِّصُ آتٍ!» وما كان يهمه في النهاية هو ملكوت الله الآتي؛ وهي حقيقة لا يجوز الخلط بينها وبين أيِّ فلسفة تقدُّمية بشرية‏. فهذا الملكوت ليس من صنع إصلاحات ‏البشر. وإنه بالتأكيد من أجل العالم‏، ولكنه ليس من العالم. فلا تقدر المساعي السياسية ولا التَّقوى المسيحية السطحية على أن تأتي بملكوت الله وأن تجسِّده على أرض الواقع. فقال بلومهارت: «لن تظهر مدينة الله المستقبلية بفضل إيماننا أو صلواتنا أو تقوانا، وإنما بفضل عمل الله وحده.»

وهذا لا يعني أنه ينبغي على هؤلاء الذين ينتظرون مجيء مستقبل المسيح ‏أن يقفوا ‏مكتوفي اليدين ولا يفعلوا شيئًا أثناء الانتظار. حاشاهم! إذ إنَّ قِوى ‏المستقبل موجودة بالفعل ‏هنا، ويجب على شعب الله أن يحيا بمعونة وإرشاد هذه القوى، ‏ويستجيب لها، ويسمح لها بأن تنمو ‏عنده. لذلك، ومن هذا المنطلق، فإنَّ أفضل ‏خدمة نؤديها، في نظر ‏بلومهارت، هي انتظار عمل ‏الله. فيجب علينا أن ننتظر ‏بِشَوقٍ مجيء المسيح من جهة، وأن نسرع إلى مجيئه من الجهة ‏الأخرى عن طريق ‏التفاني في العمل برسالة الإنجيل. ورغم شتى أنواع النشاطات الضرورية التي ‏يجب ‏أن نقوم بها من جانبنا، فيجب علينا أن نثق بأن ملكوت الله سيتغلَّب على جميع ‏‏العقبات التي تصادفنا في جهادنا.‏

وفي وسط هذا التوقُّع المتوهج لتدخُّل الله في حياتنا، آمن كريستوف ‏فريدريش بلومهارت بأن أيَّ جماعة مسيحية يجب أن تتجمَّع تدريجيًّا — تتجمَّع ‏لتنتظر باشتياق كبير تدخُّل الله، وتتجمَّع ليحيا أفرادها معًا حياة أخوية مسيحية ‏مشتركة بمعونة قوى المستقبل. فقد قال بلومهارت: «يريد الله دائمًا أن يكون له ‏مكانٌ، أيْ بمعنى جماعة تعيش حياة مسيحية مشتركة، وتنتمي بصدق إليه، لكي ‏يتمكن كيان الله من أن يقيم هناك. إذ يحتاج الله إلى مثل هذا المكان حيث يمكنه ‏أن يعمل من أجل بقية العالم. فلابد أن يكون هناك مكانٌ على الأرض — على مثال ‏جبل صهيون — حيث تشرق منه شمس ملكوت الله.» ففي المسيح، يجب أن ‏تستسلم الخليقة القديمة للخليقة الجديدة، كما يستسلم الليل للفجر.‏

ثم إنَّ هذا «الانتظار» ينطوي على نوع من الحركة المزدوجة. كما يوضح فيرنارد ايلر قائلاً: «ينبغي أن نعطي أنفسنا بالكامل لقضية الملكوت، ونفعل كل ما في استطاعتنا لكي نساعد العالم على أن يسعى لهذا الهدف. ولكن في الوقت نفسه، لابد أن نبقى هادئين وصبورين، حتى لو كانت جهودنا لم تحقق أيَّ نجاح، فإنَّ هذا النوع من الانتظار في حدِّ ذاته هو عمل خَلاَّق وقوي في التعجيل السريع لقدوم الملكوت.»

عندما يسمع المرء رسالة بلومهارت، يحسُّ بأن الحقَّ الذي تحمله رسالته ليس محصورًا في مكان أو زمان معينين. وربما يرجع هذا إلى أن يسوع بالنسبة إلى بلومهارت يقوم من بين الأموات الآن أيضًا؛ ويسوع منتصر الآن أيضًا؛ وملكوت الله يقتحم حياة الناس الآن أيضًا. إذ إنَّ النسيج الذي يرمي إليه ملكوت الله يتخطى الزمن، إذ يُجمِّع الرب أشخاصًا لا نتوقعهم ليصبحوا شهودًا له، من الذين تباركوا ليروا ما هو حقيقيٌّ، رغم أوهام وسراب زمانهم.

من بين هؤلاء الذين لديهم تلك الرؤية نفسها في زماننا هو البطريرك «أوسكار روميرو Oscar Romero» الذي اُغتيل برصاصة عام 1980م لتتوِّج حياةً مليئة بخدمة فقراء بلده، السلفادور. وقد اُنعِمَ عليه ليرى ما يفعله الله الآن، مثلما يرى بلومهارت أيضًا. وما يعبِّر عنه أوسكار ‏روميرو في صلاته الشعرية، يعبِّر عنه بلومهارت في نثر رائع. فالملكوت الذي دعا روميرو شعبه إليه، وتحداهم لاحتضانه والامتثال به، هو السيادة الإلهية نفسها التي استحوذت على بلومهارت بقوة قديرة. وعندما يضع المرء صلاة شهيد معاصر جنبًا إلى جنب مشاعر شخص قد أُسِيء فهمها، تتجلَّى هنا رؤية مسيحية موحَّدة التي لا تخضع لأيِّ زمان أو مكان محددين. عندئذ ينتابنا ارتياح عارم. فملكوت الله قريب. ويجب علينا أن نبذل كل ما في وسعنا لأجله، إضافة إلى أننا يجب علينا أيضًا أن ننتظره، أيْ القيام بعملين في عمل واحد، وهو الانتظار الفعَّال.

ولهذا السبب، فقد اخترنا صلاة أوسكار روميرو لأنها تحمل الموضوع الرئيسي ذاته في هذه المجموعة من المقالات والمواعظ. فإنَّ ما لدينا هنا هو مجرد عينة. فلا يمكن التعبير عن وسع فكر بلومهارت ولا عن عمق صلاة روميرو في كتاب صغير كهذا. ولكننا نأمل في أن ننقل روحية واشتياق كل منهما. فقد استحوذت على بلومهارت حقيقة مجيء ملكوت الله على الأرض، هنا وفي هذه الساعة. وأدرك روميرو مثلما أدرك بلومهارت أن الملكوت كان خارج نطاق جهودنا البشرية، وسيبقى أكبر من نطاق قدراتنا دائمًا، ولكن ملكوت الله قد أشعل في داخل كل منهما ترقُّبًا مُتوهِّجًا للإيمان المسيحي الحيِّ؛ إيمان يفعل وينتظر بفارغ الصبر تدخُّل الله في آن واحد، وإيمان يخدم الله، ويضع ‏رجاءه فيه‏. ولَعَلَّ رؤية بلومهارت وصلاة روميرو توقدان الإلهام في نفس القارئ عن أعمال الرجاء هذه. وفي فجر الألفية الجديدة، فإننا بالتأكيد بحاجة ماسة إلى المزيد من أمثالهم.

 

بقلم تشارلز مور Charles Moore

مايو/أيار 1998م

من كتاب «التفاني في خدمة الملكوت الآتي!»


[1] ليونهراد راجاز ‏Leonhard Ragaz‏ ‏مصلح لاهوتي سويسري، وكان من أحد مؤسسي الحركة ‏الدينية الاجتماعية في سويسرا.‏

[2] كارل بارت ‏Karl Barth‏ (ولادة 1886–وفاة 1968م) كان لاهوتيًّا كالفينيًّا سويسريًّا. ‏ويُعتبر من أبرز علماء اللاهوت للقرن الميلادي العشرين. وقد وصفه البابا بيوس الثاني عشر ‏بأنه أهم لاهوتي ظهر منذ توماس الأكويني.‏

[3] أميل برنر ‏Emil Brunner‏ لاهوتي بروتستانتي من الكنيسة الإصلاحية، عمل جنبًا إلى جنب ‏مع كارل بارت.‏

[4] ديتريش بونهوفر ‏Dietrich Bonhoeffer‏ فيلسوف ولاهوتي كاثوليكي ألماني سمَّاه البابا بيوس ‏الثاني عشر بصورة غير رسمية «طبيب الكنيسة للقرن الميلادي العشرين.»‏

[5] هارفي كوكس ‏Harvey Cox‏ وهو من أحد اللاهوتيين البارزين في الولايات المتحدة الأمريكية ‏وقد عمل أستاذًا جامعيًّا.‏

[6] جاك ايلول ‏Jacques Ellul‏ فيلسوف فرنسي وأستاذ بالقانون وباحث اجتماعي ولاهوتي ‏علماني.‏

[7] يورجن مولتمان ‏Jürgen Moltmann‏ لاهوتي ألماني إصلاحي، وأستاذ فخري في جامعة ‏توبنغن الألمانية. وهو من أعلام اللاهوت المعاصر، وقد حاز على جائزة ‏Grawemeyer ‎Award‏ في الدين من جامعة لويزفيل، مدرسة الطب، ومن إكليريكيَّة لويزفيل اللاهوتية ‏للكنيسة المشيخية.‏

[8] تشارلز فيني ‏Charles Finney‏ قسيس أمريكي بروتستانتي، قاد حركة التجدد الروحي ‏الثانية التي حصلت في الولايات المتحدة الأمريكية.‏

[9] ويليام بوث ‏William Booth‏ واعظ بريطاني من الطائفة الميثودية ومؤسس الجماعة ‏المسيحية المعروفة باسم جيش الخلاص.‏

[10] فيرنارد ايلر ‏Vernard Eller‏ كاتب أمريكي ومسيحي مسالم وقسيس في كنيسة الإخوة.‏

[11] يوهانَّس هاردر ‏Johannes Harder‏ كاتب ألماني–روسي، واجتماعي مُتَدَيِّن، وعالم في ‏علم الاجتماع، وأستاذ ‏جامعي.‏

[12] جوتفريد آرنولد ‏Gottfried Arnold‏ (1666–1714م) لاهوتي ألماني لوثري.

المقالات الأخيرة

اِعرِض الجميع

إشادة بالكتاب