My Account Sign Out
My Account
silhouettes against a painted window

ألا يزال الله مَيْتًا؟

من موعظة أُلقيت في 25 أغسطس عام 1898م

بقلم كريستوف فريدريش بلومهارت Christoph Friedrich Blumhardt

5 مايو. 2025

اللغات المتوفرة: español ، 한국어 ، English

0 تعليقات
0 تعليقات
0 تعليقات
    أرسِل

قرأت منذ فترة وجيزة رواية فلسفية بعنوان: هكذا تكلم زرادشت، وعنوانها بالإنجليزية: Thus Spoke Zarathustra، للفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه Friedrich Nietzsche.

فتحكي الرواية أن زرادشت كان مُقيمًا في كهفه في الجبال لسنوات عديدة، حيث كان يفكر مليًّا ساعيًّا لإدراك أعماق نفسه، ثم خرج وأراد مغادرة ذلك المكان المنعزل لكي يذهب إلى الناس مرة أخرى. وفيما هو نازل من الجبال، فإنَّ أول شخص قابله كان ناسكًا عجوزًا. فحذره الناسك من الذهاب إلى الناس، وسأله ما الذي دفعه إلى مثل هذا الأمر. فأجابه زرادشت: «أنا أحب الناس.» فقال الناسك: «إنَّ محبتي للناس هي التي دمَّرت حياتي؛ وهي التي جعلت مني ناسكًا. أمَّا الآن فأنا أحب الله، لا الناس.» ومن ثم أنهيا حديثهما وتفارقا. وعندما أصبح زرادشت بمفرده مُتأمِّلاً هذا الموضوع، اندهش، وقال في نفسه: «مَنْ كان ليصدق هذا! فلم يسمع هذا الرجل العجوز الطيِّب مُطلقًا — أن الله مَيْتٌ!»

لقد جعلتْ هذه الرواية بدني كله يرتعش من فوق إلى تحت. وهي في الحقيقة على حقٍّ — فالله مَيْتٌ! وهو بطبيعة الحال ليس مَيْتًا فعلاً، لكنه مَيْتٌ في حياة الناس. فلا أحد يتحمس أبدًا عندما تَلفظون كلمة: «الله»؛ فهذا يُعتبَر من أكثر الأمور المُضجِرة في العالم. أمَّا عندما يقفز أرنب في الحقل فيصيح الجميع: «أنظر! هذا أرنب!» ويُظهِرون اهتمامًا مُعيَّنًا به. غير أن الله بالنسبة إلى معظم الناس لا صلة له بالحياة ولا قيمة له. فهو مَيْتٌ عندهم.

هناك طريقة أخرى تخبرنا بأن الله مَيْتٌ: إنَّ حضارتنا، وبكل بساطة، لم تعد بحاجة إلى الله. فما فائدة الله عندما تكونون في القطار؟ لأن وظيفة الرجل الذي يقود القطار، على سبيل المثال، هي أن يصل بي إلى مدينة شتوتغارت Stuttgart. فيمكن أن يَئِنَّ مُحصِّل التذاكر، وينكسر ظهر رجل الإطفاء، ويقلق المهندس، ولكن، هل يعنيني الأمر شيئًا؟ فأنا لا أفعل شيئًا سوى الجلوس هناك في عربة القطار غير مبالٍ بما يكابده الآخرون. ولهذا السبب، فإننا يمكن أن نكون جُفاة الطبع وقساة القلوب إلى درجة كبيرة حينما نستمتع بكل ما يُقدِّمه لنا العصر الحديث؛ فلسنا بحاجة إلى الله. ثم إنَّ العلم والتكنولوجيا لا يحتاجان إلى الله. فإنهما يحققان نجاحًا جيدًا بدونه! ولهذا قيلت هذه الآية الإنجيلية: «سَيَنْظُرُونَ إِلَى الَّذِي طَعَنُوهُ» أيْ بمعنى أنه قُتِل. فالله مَيْتٌ، ومقتول. لقد اختبر زرادشت الحقيقة في أعصابه الهائجة اختبارًا أكبر من كل أولئك المسيحيين المُملِّين، الذين لم تبقَ لديهم أيُّ فكرة جادة بشأن الله! فليس لله أيُّ أهمية حقيقية، حتى لأولئك الذين لديهم دين، لأن الدين أصبح أهم من الله. ورغم أن الناس يدخلون في جدالات فظيعة حول المسائل الدينية، إلاَّ أن الله مَيْتٌ عندهم طوال الوقت. وهذا الأمر مقبول عندهم تمامًا حين يكون الله مَيْتًا، لأنهم سيتمكنون عندئذ من أن يفعلوا ما يحلو لهم. وهذه ميزة أخرى يتسم بها زماننا: إنَّ الناس يريدون أن يكون لهم الحرية للقيام في أيِّ لحظة بكل ما يتبادر إلى أذهانهم أو بكل ما يرضيهم.

 
PaintedWindowEmbed

Photograph by JR Korpa

غير أن أهم نقطة في الموضوع هي: إنَّ الله في المسيح ليس مَيْتًا؛ فإنه ما يزال «الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ.» وكل ما بين البداية والنهاية ليس إلاَّ فوضى، وهي ليست مجرد غُربة روحية عن الله، لا يعرف فيها الناس إلى أين تمضي الحياة بهم، بل فوضى حقيقية بكل ما تعنيه الكلمة. فقد خلق الله الناس من رجال ونساء لكي يشاركوا في العمل لأجل الغاية السامية، أيْ لأجل بناء ملكوت الله على الأرض، غير أنهم لا يشاركون فيه. وهكذا يستمر الجنون والحماقات الباطلة. ويمكن أن يستمر كل هذا ليصبح فوضى أبدية، فيما عدا أن يسوع المسيح قد جاء إلى الأرض؛ فتبعته قِلَّة من الناس. أمَّا تلك القِلَّة فلم تكُن من أصحاب التديُّن الظاهري، أيْ من الذين يحرصون على خلاصهم الشخصي فقط، ومن الذين لا ينخرطون في الدين إلاَّ لأجل المنافع التي ستعود عليهم منه. لا، مُطلقًا، إذ إنَّ أتباع يسوع هم مَنْ يُعرِّضون حياتهم للخطر، فقد قال يسوع المسيح:

وَمَنْ لَا يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلَا يَسْتَحِقُّنِي. (متى 10: 38)

ثم إنَّ أتباع يسوع مولودون روحيًّا من الله، ويجاهدون لأجل الله، ولأجل العالم كله. أمَّا الكنيسة الشكلية فلا رغبة لها فيهم، لأنها تريد أن تبقي نفسها كما هي عليه دون تغيير وإصلاح.[1]

قال نيتشه: «الله مَيْتٌ،» وقد كان على حقٍّ. أمَّا نحن أتباع يسوع المسيح فنقول: «الله حيٌّ!» ولا نطمح إلى حياة ملؤها الرفاه، لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة. فكل ما نريد معرفته هو أن الله حيٌّ. فلستُ راغبًا في التَّمتُّع بأيِّ لحظة من السعادة المريحة، لغاية أن تعرف هذه الأرض أن الله حيٌّ! ويجب علينا أن ننحني أمام الله الحيِّ، ونبكي بكاءً عظيمًا لكوننا كُنَّا مستمرين في قتله لغاية هذه اللحظة. لقد وُلِدنا وجئنا إلى هذه الدنيا من أجل المصاعب ومواجهة المشاكل، ووُلِدنا من أجل خوض المعركة. وعارٌ علينا نحن المسيحيين حينما نريد دائمًا أن تكون الحياة لطيفة وناعمة، وليس فيها سوى جزء صغير من الله! غير أننا ينبغي أن نتفانى في حياتنا المسيحية، ونجاهد حتى الموت، وإلاَّ فإنِّنا لا نستحق اسم المسيح. أمَّا الله فينادينا قائلاً لنا: «هلموا وشاركوا في عملي!» وما لم نفعل ذلك، فإننا نخدع أنفسنا.

لقد قال الله لإبراهيم: «تعال وشارك،» ولم يتفوَّه إبراهيم بأيِّ سؤال. فلم يسأل: «نعم، ولكن ماذا سيحدث لي؟» فكل مَنْ يسأل هذا السؤال يُستبعَد ولا يسعه أن يكون مشاركًا في عمل الله. فلا يعرف حقيقة وواقعية الله إلاَّ الذين يريدون المشاركة في عمل الله، أولئك الذين يريدون الوصول إلى «الْيَاءُ» ووضع حجر الزاوية في الخليقة. وإنَّ حجر الزاوية هو الروح القدس، وعلينا أن نضم نفوسنا إلى الروح القدس لكيما تأتي النهاية التي يصنعها الله — ملكوت الله على الأرض.

فهذا الأمر هو الذي يصنع الأنبياء؛ فإنهم لا يتناسبون مع أيِّ قالب مسيحي اسمي. فكل نبي حقيقي يدين المسيحيين الاسميين على أساليبهم في تخفيف الحياة المسيحية وفي جعلها مسترخية. فقد انتهتْ هذه الحياة المسترخية، فقد وضع المسيح حدًّا لها. وعندما يظهر الأنبياء الصادقون، فإنهم يتخذون إجراءات حازمة، لأنهم يشتركون في اهتمامات الله.

إنَّ يسوع المسيح موجود هنا على الأرض. وينبغي أن تقوموا بتغيير جذري لأفكاركم والمضي في اتجاه معاكس، وإلاَّ فلن يمكنكم الاشتراك في العمل الذي يبتغيه الرب. أمَّا حيازة مشاعر دينية محضة التي ترمي إلى النفاذ بجلدنا للنجاة بأنفسنا من الخطر — فهي تجارة رخيصة. فأنتم تقرؤون ما يقوله الأنبياء والرسل في الكتاب المُقدَّس. فمتى رأيتموهم قد فكَّروا في النفاذ بجلدهم والنجاة بأنفسهم؟ لقد مضوا في طريق الاستشهاد، ومواجهة المشاكل والعذاب والآلام، وكل شيء، لأنهم كانوا من الناس الذين اشتركوا في العمل مع الله، كما يشهد الإنجيل:

وَلَكِنْ لَنَا هَذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ لِلَّهِ لاَ مِنَّا. مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لَكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. مُضْطَهَدِينَ، لَكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لَكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ. حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا. لأَنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِمًا لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا الْمَائِتِ. إِذًا الْمَوْتُ يَعْمَلُ فِينَا، وَلَكِنِ الْحَيَاةُ فِيكُمْ. (2 كورنثوس 4: 7–12)

يؤلمني رؤية أنه لا يوجد سوى عدد قليل جدًا من الذين يعتزمون خوض المعركة. إذ يأتي الناس إليَّ ويحكون لي عن همومهم وعَمَّا يقلقهم. فيريدني أحدهم أن أُصَلِّي لأجل الصداع الذي يعاني منه، وأخرى لأجل صحتها النفسية، فيريد كلاهما القليل من المتاعب، فهما يريدان مَرهَمًا حتى لا يؤلمهما شيء. فمِن المفترض في نظرهم أن لا يوجد أيُّ شيء يسبب الألم من بعد الآن! غير أن الفوضى لا يمكن هزيمتها بدون مواجهة المتاعب والآلام والجهاد حتى الموت.[2] أمَّا بالنسبة إلى أولاد الله، فليس لهم سوى الجهاد، وليس لهم سوى الثبات على الإيمان المسيحي، ورفع علم الولاء للرب عاليًا في معركتنا مع كل شيء لا ينحني له، ولا يخضع له:

ثُمَّ أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ بِوَدَاعَةِ الْمَسِيحِ وَحِلْمِهِ، أَنَا نَفْسِي بُولُسُ الَّذِي فِي الْحَضْرَةِ ذَلِيلٌ بَيْنَكُمْ، وَأَمَّا فِي الْغَيْبَةِ فَمُتَجَاسِرٌ عَلَيْكُمْ. وَلَكِنْ أَطْلُبُ أَنْ لاَ أَتَجَاسَرَ وَأَنَا حَاضِرٌ بِالثِّقَةِ الَّتِي بِهَا أَرَى أَنِّي سَأَجْتَرِئُ عَلَى قَوْمٍ يَحْسِبُونَنَا كَأَنَّنَا نَسْلُكُ حَسَبَ الْجَسَدِ. لأَنَّنَا وَإِنْ كُنَّا نَسْلُكُ فِي الْجَسَدِ، لَسْنَا حَسَبَ الْجَسَدِ نُحَارِبُ. إِذْ أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قَادِرَةٌ بِاللَّهِ عَلَى هَدْمِ حُصُونٍ. هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ، وَمُسْتَعِدِّينَ لأَنْ نَنْتَقِمَ عَلَى كُلِّ عِصْيَانٍ، مَتَى كَمِلَتْ طَاعَتُكُمْ. (2 كورنثوس 10: 1–6)

إنَّ كل ما لا يأتي من الله إنما هو من الشيطان — حتى لو صادف أن الذي يعرقل طريق يسوع المسيح هو بطرس الرسول نفسه. ويشهد الإنجيل لهذا:

مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلاً: «حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هَذَا!» فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: «اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ.» (متى 16: 21–23)

إنَّ ما علينا أن نفعله الآن هو أن نشترك في عمل الله بالروح القدس. لأن الجزء الصغير الذي اقتطعناه من الحياة المسيحية الحقيقية لن يخلِّصنا من شدائد الأزمنة العصيبة عندما يأتي زمان يُمحى فيه ملايين الناس، ما لم يكُن لدى الله شعب يشاركه في العمل لأجل ملكوته. فمِن المفترض أن لا يكون لشعب الله أيُّ مُهِمَّة على الأرض سوى أن يحيوا ويعملوا ويجاهدوا لأجل ملكوت الله. «فالملكوت آتٍ!» فهذا هو المنحى الذي سلكه تلاميذ يسوع المسيح. وإنَّ صرخة «الملكوت آتٍ!» هي في الحقيقة الإنجيل في حدِّ ذاته. وما لم يوضع حدٌّ للفوضى السائدة في العالم، فمِن الوهم الخالص الاعتقاد بأننا تطوَّرنا أو تقدَّمنا. إذ إنَّ حضارتنا ما هي سوى خدعة. فلم نحرز أيَّ تطوُّر حقيقي. ولن تتذوق البشرية طعم الرُقيِّ والتقدم إلاَّ بحلول ملكوت الله.

يقول الرب: «أنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ.» أنؤمن حقًّا بهذا؟ فالإيمان به شيء، أمَّا الشروع بتكريس الحياة من أجل أن نحيا المسيح على أرض الواقع، فإنما هو شيء آخر. فليكُن كُلٌّ مِنَّا صريحًا مع نفسه وينزل عن فراشه الوثير. فادخلوا مباشرة إلى المعركة، وإلى عمقها المُحتدِم، حتى لو كلفكم الأمر حياتكم! إذ إنَّ يسوع المسيح حيٌّ، وهو منتصرٌ، ويهبنا النصر على الخطيئة والظلمة، وقد سَلَّمَنا مُهِمَّتنا الخاصة بنا لننجزها.

ولكن فيما نحن نقوم بدورنا، دعونا لا ننسى أن كل ما يهم في النهاية هو أعمال الله لا أعمالنا:

بِاللهِ نَصْنَعُ بِبَأْسٍ وَهُوَ يَدُوسُ أَعْدَاءَنَا. (مزمور 108: 13)

لقد قال داود هذه الآية عندما توجَّه إلى الحرب دون أن يضع ثقته في الأسلحة. غير أنه من المحزن أن نقول إنَّ إيماننا لا يصنع مثل تلك الأعمال. أمَّا نوع العمل الوحيد من أعمال الله الذي نعرفه، فهو إقامة مؤسسة معينة بدون أن يكون لدينا المال اللازم لها، على سبيل المثال. فلو حصلنا على المال بعد تعب شديد في شحذ المال، فإنِّنا نُسَمِّي هذا عمل الله! فمثل هذا العمل وما شابهه هو كل ما نعرفه عن أعمال الله. غير أن هذه الأعمال هي أعمالنا وليست أعمال الله. وهي جيدة نوعًا ما، ولكن يجب أن نقرَّ بأنها مجرد حلٍّ مؤقتٍ إلى أن يأتي الله ويتدخل. أمَّا أن نأمل في الحصول على أعمال الملكوت – فهذا هو الإيمان بعينه. فيجب أن نكون شحاذين في ملكوت الله، ولا ننصرف عن باب الله إلاَّ بعدما نوهب شيء منه. وما أحوجنا إلى أعمال الله القديرة.

وفي هذا الصدد، يبدو أن اللعبة لا تزال قائمة حتى اليوم. فالله ببساطة لم يَعُدْ واقعًا حقيقيًّا عندنا. وحتى أنني، في دعوة الله الشخصية لي لأكون قسيسًا، تراني نادرًا ما أنجح في إيقاظ الوعي الحيِّ لدى الناس بدور الله في الحياة، ذلك الوعي الذي أتمنى أن يتحلَّى الناس به فعلاً. ورغم أني مصدر إلهام للكثيرين، وأُقدِّم أفكارًا ساميةً للكثير من الناس، إلاَّ أنه لا يزال هناك شيء مفقود، شيء يبدو أنه اختفى من زماننا الحاضر. إذ يقف البشر هناك أجردًا كئيبًا. لقد فقد المؤمنون ملوحتهم.[3]

إنَّ أعظم أعمال الله هي ليست تلك التي تحدث مع المرضى. فهذه ليست مُهِمَّة جدًا. ولكن الأهم هو أن نرى أمورًا تحدث مع الأصحاء، وأن نرى تغييرات وإصلاحات في حياة الناس وفي أحوال العالم وأحداثه وأسلوب الحياة فيه. ولكن ما نوع الأعمال التي من الله؟ يمكنني أن أقول، على سبيل المثال، عندما تتوقف البنادق عن إطلاق نيرانها في الحروب. أتعتقدون أن هذا ممكن؟ يبدو أن هذه الفكرة تجعل الجميع يضحكون بصوت خافت بينهم وبين نفسهم! ولكن، ألم تحدث مثل هذه الأحداث في إسرائيل قديمًا؟! (راجع سفر يشوع 5: 13؛ 6: 27). فإنِّنا بحاجة ماسة اليوم إلى أعمال مماثلة كهذه أكثر من أيِّ شيء آخر، لكيما يؤخذ كل شيء كُليًّا من أيدينا، ويوضع في يدي ذاك الحيِّ لتدبير أمره. وبطبيعة الحال، عندما يأتينا فعلاً شيء من عند الله، فإنه يأتي في الوقت المناسب، وبأسلوب الله. فمِن الضروري في هذا الصدد أن يدخل واقع الله مرة أخرى إلى حياتنا.

إنَّ هذا الأمر هو ما ينقصنا. إذ لا يُمَثِّل الله واقعًا حقيقيًّا عندنا. فلم يشهد أيُّ زمان يلعب فيه الله دورًا ضئيلاً جدًا مثل زماننا. وهذا أمر غير عادي إلى حدٍّ كبيرٍ. أمَّا التديُّن المظهري فهو موجود الآن بشكل غير مسبوق، إلاَّ أن قلوبنا أقل امتلاءً بالله. ولكننا يمكننا أن نمتلئ بالفرح الإلهي لدرجة أننا يمكننا أن نقلب صفحة جديدة ونبدأ بداية جديدة، فنصبح بذلك أشخاصًا صادقين، وأشخاصًا قد تغيَّروا واستقاموا. ومن أجل تحقيق ذلك، فإننا نريد أن نكون شحاذين يستعطون الله. وهذا لن يتحقق بفضل أعمال ظاهرية سطحية، ولكن بفضل شيء ذا شأن يصنعه الله وملكوته. وإذا شهدنا هذا الأمر، حَظِينا بكل شيء. وبدونه يبقى الله مَيْتًا.

هذه المقالة مقتطفة من كتاب: «في انتظاره فعل»

[1] نود لفت انتباه القارئ إلى التبعات السلبية التي حصلت من جراء حدث تاريخي حصل في القرن الميلادي الرابع تزامنًا مع اعتناق الإمبراطور قسطنطين للمسيحية، حيث أصبحت الديانة المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية، وتدفقت الآلاف إلى الكنيسة دون شروط العضوية في الكنيسة في خضوعهم لوصايا المسيح. فاختلطت الظلمة مع النور، الأمر الذي أفرز الكثير من المساومات على رسالة الإنجيل، الذي رأينا، ولا نزال نرى ثماره المريرة لحدِّ يومنا هذا، من خلال ما يسمى المسيحية الاسمية أو الشكلية أو المسيحية التي تفتقر إلى الوضوح في مجالات مُهِمَّة في الحياة أو الكنيسة المتحالفة مع الحكومة.

[2] إنَّ المقصود من كلمة الجهاد أو خوض المعارك وفقًا للمفهوم المسيحي هو ليس سفك الدماء أو استعمال الإكراه، بل هو الجهاد الروحي، والصلاة، وتقديم أعمال المحبة والرحمة والغفران، والتفاني في الخدمة، واستبشاع المساومات على وصايا الرب، واسترخاص كل غالٍ ونفيس، بل حتى المضي في طريق الاستشهاد، من أجل العمل بمشيئة الله. فإنه يُمثِّل الحياة المسيحية؛ إنه درب الصليب.

[3] إنَّ مُصطَلَح «الملح» أو «الملوحة» التي يريدنا المسيح أن نتحلَّى بها، مأخوذٌ من كلامه مع تلاميذه، عندما قال لهم: «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلَكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ.» (متى 5: 13) فالمقصود بالملح هنا الحياة المسيحية الخالية من المساومات على وصايا الرب، أو الإيمان المسيحي الحيُّ العامل بالمحبة، الذي يهب الحياة معنىً وقيمةً وفرحًا، إضافة إلى أنه يشفي نفوسنا ونفوس إخواننا البشر، ويكافح ظاهرة التراخي في حياتنا. ثم إنَّ الحياة المسيحية ترتكز على الإرشاد المستمر للروح القدس، والتوقُّع المُتوهِّج للتدخُّل القدير لله في الحياة.

مساهمة من ChristophFriedrichBlumhardt2 كريستوف فريدريش بلومهارت

لم يهتم بلومهارت بالأمور المتعلقة بالديانة والكنيسة، ‏وخدمات العبادة، والتعاليم ‏الكنسية، ولا حتى بالسلام ‏الداخلي، أو الخلاص على الصعيد الشخصي فقط. فقد كان ‏‏الإيمان في نظره أمرًا يَتعلَّق بمجيء ملكوت الله، وبانتصار الله ‏على الظلمة والموت، هنا على ‏هذه الأرض وفي هذه الساعة. ‏وكانت رؤيته لبِرِّ الله على الأرض بلا شروط، وكانت رؤية ‏مؤثرة ‏للغاية، ومفادها أن: محبة الله تُصالِح العالم، وتحرر من ‏الألم، وتشفي الاحتياج الاقتصادي ‏والاجتماعي، أيْ باختصار، ‏إنها تُجَدِّد الأرض.‏

اِقرأ المزيد
0 تعليقات