Subtotal: $
Checkout
يصف هذا المقطع «أحمق من أجل المسيح» في رواية الأبله لقاء الأمير مايشكن الأول مع ناستاسيا فيليبوفنا، التي تصل بصورة غير متوقعة إلى بيت جانيا الذي طلب منها أن تتزوَّجه.[1] ولم يكن دافعه للزواج منها حبَّه لها، بل طمعا بالمال الذي عرضه عليه أحد مُلاَّك الأراضي الأغنياء توتسكي. إذ إنَّ توتسكي، الذي قام بتربيتها وهي يتيمة، ثم هيأها لتكون عشيقته، أراد أن يحرِّر نفسه منها، إلاَّ أن عائلة جانيا تعارض هذا الزواج بسبب سمعة ناستاسيا السيئة.
وكان من بين المجتمعين في اللقاء العائلي والدة جانيا واسمها نينا أليكساندروفنا؛ وأخته فاريا (المخطوبة إلى بتسيتشين، مُقرِض الأموال)؛ وأخوه الأصغر كوليا. أمَّا فردِشتشينكو فقد كان نزيلا يسكن في المنزل. واليوم هو عيد ميلاد ناستاسيا فيليبوفنا، وقد وعدتْ بأن تُعلن قرارها حول زواجها المُقتَرح خلال حفل المساء.
وكان بارفيون روجوزهين رجلا همجيا عنيفا وحديث الثراء، ويحب ناستاسيا فيليبوفنا بجنون. وقد أحضر معه مجموعة من الأصدقاء المشاكسين ليدعموه، ومن ضمنهم ليبيديف.
وكان الأمير مايشكن قد انتقل حديثا للسكن في هذا المنزل كنزيل آخر فيه.
اجتاز الأمير مايشكن قاعة الطعام ومن ثم الردهة وهو في طريقه إلى غرفته. وأثناء مروره بالباب الأمامي، سمع ولاحظ شخصا في الخارج يبذل جهدا يائسا لقرع الجرس. ولكن يبدو أن هناك عطبا ما في الجرس؛ فلا يزيد الجرس على أن يتحرك تحركا ضعيفا دون أن يُسمع له أيُّ صوت. فسحب الأمير المزلاج، وفتح الباب، فاستوقفه ما رأى للحظة مدهوشًا مذهولاً. إذ رأى ناستاسيا فيليبوفنا واقفة أمامه. وعرفها في الحال من صورتها. وكان هناك وميض من الغضب في عينيها وهي تنظر إليه. فمَشَتْ بسرعة إلى الردهة، دافعة إياه بكتفها لتزيحه عن طريقها، وقالت بشراسة طارحة عنها معطفها الفرو:
«إذا كنتَ كسولا جدا لدرجة أنك لا تستطيع تصليح الجرس، كان الأحرى بك على الأقل أن تكون واقفا في المدخل عندما يقرع الناس الجرس. وها أنت الآن تُسقِط معطفي، أيها المُغَفَّل!»
وبالفعل، كان المعطف ساقطا على الأرض. فإنها لم تنتظر أن يساعدها في خلع المعطف، فرمته على ذراعيه بحركة من كتفها دون أن تنظر إليه، متوقعة أنه سيلتقطه، غير أن مايشكن لم يكن سريعا بما فيه الكفاية في التقاطه.
«كان من المفروض عليهم أن يطردوك من الخدمة، هَلُمَّ اذهبْ وأعْلِنْ للحاضرين عن وصولي.»
أراد مايشكن أن يقول شيئا، ولكنه كان مرتبكا ومندهشا جدا لدرجة أنه لم يستطِع أن ينطق بكلمة واحدة، ومع ذلك، اتجه نحو غرفة الصالون وعلى ذراعه المعطف الذي رفعه عن الأرض.
«ماذا بعد؟ إنه يأخذ معطفي معه! إلى أين تأخذ معطفي؟ ها، ها، ها! هل أنتَ مجنون؟»
فعاد مايشكن إليها بارتباك أكثر من السابق، وحدَّق فيها، واقفًا متجمدًا كما لو كان مرعوبًا. فلَمَّا انفجرتْ ضحكا، ابتسم هو أيضا، ولكن لسانه لم يستطِع إطلاق أيِّ كلمة لحد الآن. ففي البداية، عندما فتح الباب ورآها واقفة أمامه، أصبح وجهه شاحبا جدا؛ أمَّا الآن فملأ الدم خَدَّيه وتَوَرَّدا.
صرخت ناستاسيا فيليبوفنا غاضبة وهي تضرب الأرض بقدمها: «يا له من أبله! إلى أين أنتَ ذاهب الآن؟ هَلُمَّ بكَ، وافعل ما قلته لكَ! أتعرف مَنْ ستعلن عن مجيئه؟»
تمتم مايشكن: «ناستاسيا فيليبوفنا.»
فسألته بلهجة حادَّة: «وكيف تعرفني؟ فأنا لم أرَك يوما! هيا أعْلِنْ عن وصولي. ولماذا هذا الصراخ في الداخل؟»
أجاب مايشكن وهو يتَّجه نحو غرفة الصالون: «إنهم يتشاجرون.»
لقد دخل مايشكن غرفة الصالون في لحظة حرجة عندما تأزَّم الوضع إلى حدٍّ ما بين أفراد عائلة جانيا داخل غرفة الصالون. إذ كانت نينا أليكساندروفنا، والدة جانيا، على وشك النسيان الكلي أنها «مذعنة لكل شيء والمفروض أن توافق على كل ما يجري»؛ ومع ذلك، كانت تدافع عن موقف بنتها فاريا. وكان موقف بتسيتشين، خطيب فاريا، إلى جانب موقف فاريا أيضا؛ وقد ترك ملاحظة كتبها بقلم الرصاص. أمَّا فاريا فلم يكن يبدو عليها أنها خائفة من الدفاع عن موقفها بنفسها. فإنها لم تكن على الإطلاق من النوع الخجول والمرتبك؛ ولكن وقاحة شقيقها جانيا أصبحت أكثر خشونة ولا تُطاق في كل لحظة. ولقد اعتادت في مثل هذه الأحوال أن تتوقف عن الكلام وتثبِّت نظرها على أخيها في صمت ساخر دون أن تحوِّل بصرها عنه لحظة واحدة. فإنها كانت تعرف جيدا أن هذا التكتيك يمكن له أن يشتِّت انتباه أخيها جانيا ويغيِّر أسلوبه. وفي تلك اللحظة المتأزِّمة بالذات، فُتِح الباب ودخل مايشكن إلى غرفة الصالون مُعلنا:
«ناستاسيا فيليبوفنا!»
فإذا بصمت تام يَحِلُّ على الغرفة على الفور؛ فأخذ الجميع يُحدِّقون إلى مايشكن، كما لو أنهم لم يفهموه بل لم يأملوا أن يفهموه. أمَّا جانيا فتجمَّد من شدة الرعب. إذ إنَّ وصول ناستاسيا فيليبوفنا، ولاسيَّما في مثل هذه اللحظة، هي في نظر كل واحد منهم أغرب مفاجأة وتبعث على الحيرة والارتباك. فإنَّ مجرد تفكير ناستاسيا فيليبوفنا لأول مرة في أن تزورهم كان أمرا مذهلا. فقد ظلَّت حتى الآن متكبِّرة متعالية، لدرجة أنها لم تُعرب مطلقا في أحاديثها مع جانيا حتى عن أيِّ رغبة في التعرُّف على عائلته. ولم تذكرهم بتاتا في الآونة الأخيرة في حديثها، كما لو كانوا غير موجودين. ورغم أن جانيا قد شعر بالارتياح إلى حدٍّ ما لتجنُّب الحديث في مثل هذا الموضوع الصعب للغاية، إلاَّ أنه، في قرارة نفسه، قد ذَخَرَه ليستخدمه ضدها بعد الزواج منها. ولقد كان على كل حال يتوقع منها تعليقات جارحة وساخِرة في حقِّ عائلته أكثر مما كان يتوقع منها زيارتهم. وكان متأكِّدا من أنها كانت على علم بكل ما كان يجري من تشاجُر في بيته عن خطوبته لها، وبموقف عائلته منها. غير أن هناك أمرا واحدا بدا له واضحا جدا وهو: زيارتها الآن في يوم عيد ميلادها من بعد أن أهدته صورتها، الأمر الذي كان يشير بوضوح كافٍ إلى نوع القرار الذي كانت تنوي اتخاذه! فهي قد وعدت أن تعلن في هذا اليوم قرارها في مسألة الزواج المُقتَرح.
لم يَطُلِ الانشداه الذي حدَّق به الجميع إلى مايشكن. فها هي ذي ناستاسيا فيليبوفنا نفسها تقف على باب غرفة الصالون، وتدفع مايشكن قليلا مرة ثانية لتنحيه عن طريقها أثناء دخولها الغرفة.
فقالت ناستاسيا فيليبوفنا بمرح وهي تمد يدها إلى جانيا الذي صار إلى جانبها بوثبة واحدة: «أخيرا نجحتُ في الدخول. لماذا تعقدون حبل جرسكم؟» وأردفتْ تسأل جانيا: «ما لي أرى وجهك منقلبا؟ قَدِّمْني إلى الحضور من فضلك.»
وجانيا الذي غدا مرتبكا كليًّا، قَدَّمها أولا إلى أخته فاريا، فتبادلت المرأتان نظرات غريبة قبل أن تمدَّ كل منهما يدها إلى الأخرى للمصافحة. إلاَّ أن ناستاسيا فيليبوفنا ضحكت وأخفت مشاعرها الحقيقية وراء قناع من المرح المصطنع؛ أمَّا فاريا فلم تحاول إخفاء مشاعرها، وظلت تنظر إليها بعبوسة شديدة. ولم يظهر في وجهها حتى أثر ابتسامة، التي تتطلبها أبسط مبادئ الآداب. فاغتاظ جانيا من ذلك؛ فلا نفع من التساهل، ولم يكن هناك متسع من الوقت في الحقيقة لمخاطبة أخته للعدول عن موقفها الجاف نحو ناستاسيا فيليبوفنا، لذلك سدَّد إليها نظرة وعيدة لدرجة أنها أدركت أهمية تلك اللحظة بالنسبة إلى أخيها. ويبدو أنها قررت النزول عند رغبته، فابتسمت لناستاسيا فيليبوفنا ابتسامة مصطنعة. (إذ كان جميع أفراد العائلة لا يزال بعضهم يحب بعضا كثيرا). غير أن الأجواء المتشنجة تحسنت بعض الشيء قرب والدته نينا أليكساندروفنا، عندما قدَّمها إلى ناستاسيا فيليبوفنا بعد تقديمها إلى أخته. وقد ارتكب جانيا خطأ في سلوك الآداب، من فرط اضطرابه طبعا، لأنه قدَّم ناستاسيا فيليبوفنا إلى أخته قبل والدته. حتى أنه قام بتقديم والدته إلى ناستاسيا فيليبوفنا بدلا من تقديم ناستاسيا فيليبوفنا إلى والدته. ولكن ما أن بدأت والدته نينا أليكساندروفنا بكلامها الترحيبي بناستاسيا فيليبوفنا وهي تقول: «يُسِرُّني جدا أن ...» حتى التفتت ناستاسيا فيليبوفنا نحو جانيا بحركة سريعة، وغير مكترثة بكلام والدته، وصرخت تقول له بعد أن جلستْ على كنبة صغيرة في زاوية الغرفة قرب النافذة، دون أن تُدعى للجلوس:
«أين مكتبك؟ و ... أين النزلاء؟ فأنتم تستقبلون نزلاء، أليس كذلك؟»
اِحمرَّ وجه جانيا احمرارا شديدا، وحاول أن يتلفَّظ بجواب، ولكن ناستاسيا فيليبوفنا كانت قد تابعت كلامها تقول: «وأين بحقِّ السماء تحشرون النزلاء هنا؟ إذ ليس لك حتى مكتب!» ثم التفتت فجأة نحو نينا أليكساندروفنا فقالت لها: «فهل مثل هذا التأجير يدرُّ على الأقل ربحا ما؟»
فردَّت عليها الوالدة نينا أليكساندروفنا قائلة: «إنَّ التأجير يورِث متاعب كثيرة. وطبعا لابد وأنه يدرُّ ربحا بعض الشيء. ونحن قد باشرنا به منذ مدة قصيرة، غير أن ...»
ولكن ناستاسيا فيليبوفنا كانت قد انقطعت عن الإصغاء إليها؛ فكانت تحدِّق إلى جانيا، وتضحك، وتصيح له قائلة:
«ما لي أرى وجهك منقلبا هذا الانقلاب! يا إلهي! يا له من وجه — في هذه اللحظة!»
استمر ضحكها لعدة دقائق، أمَّا جانيا فقد تشوَّهت ملامح وجهه من غير ريب. فقد فارقه فجأة ما أحسَّ به في أول الأمر من انشداه وارتباك مكتئب وساخر. ولكنه أصبح شاحب اللون للغاية، وأخذت شفتاه الآن ترتعشان غضبا وهو مستمر في تحديقه بنظرة ثابتة خبيثة شريرة، دون أن ينطق بكلمة واحدة، إلى وجه زائرته التي لا تزال تضحك.
وكان مراقب آخر موجودا هناك، الذي لم يكد يرجع إلى حالته الطبيعية لحد الآن من جراء الدهشة التي أخذته عند رؤية ناستاسيا فيليبوفنا؛ ولكنه رغم أنه بقي مبهوتا في مكانه عند باب غرفة الصالون، إلاَّ أنه لاحظ شحوبا شبيها بالموت على جانيا وتغييرا مشؤوما طرأ على وجهه. وكان هذا المراقب هو مايشكن، الذي أخذ يتقدم إلى الأمام لا شعوريًّا وهو مرعوب تقريبا، وهمس إلى جانيا:
«اشرب قليلا من الماء، ولا تنظر إليها هكذا.»
كان واضحا أنه قال ذلك قولاً عفويًّا دون أيِّ دافع أو نيَّة مُبطَّنة. ولكن كلامه هذا كان له أثر خارق، فكأن كل ما كان يعتمل في نفس جانيا من غيظ قد انصبَّ على مايشكن دفعة واحدة. فها هو ذا يمسكه من كتفه، ويحدِّق إليه بنظرة فيها حقد واستياء، صامتا كأنه عاجز عن أن ينطق بكلمة. فأحدث ذلك ضجة عامة في الجمع؛ حتى أن الوالدة نينا أليكساندروفنا صدر عنها صرخة خافتة. أمَّا بتسيتشين، خطيب فاريا، فخطا خطوة إلى الأمام وهو متضايق؛ وكوليا وفردِشتشينكو اللذان كانا يدخلان غرفة الصالون، توقفا عند الباب وهما في دهشة من أمرهما. غير أن الذي ظل وحده عابسا وذا مشاعر فاترة هو فاريا، ولكنها كانت مع ذلك تراقب الأحداث باهتمام شديد. ولم تجلس، ولكنها وقفت بجانب والدتها وهي منزعجة، ومتكتفة اليدين.
غير أن جانيا لم يلبث أن عاد فورا إلى صوابه من اللحظة الأولى تقريبا، وأخذ يضحك ضحكة عصبية. ثم استعاد سيطرته الكاملة على مشاعره وهدوئه. وصاح يقول بصوت حاول أن يجعله مرحا طبيعيا: «ماذا دهاك أيها الأمير؟ أتراك طبيبا؟ لقد كدت تخيفني.»
والتفتَ إلى ناستاسيا فيليبوفنا، وأضاف يقول: «اسمحي لي أن أقدِّم لك هذه الشخصية النادرة، وإنْ كنتُ لا أعرفه أنا نفسي إلاَّ منذ هذا الصباح.»
نظرت ناستاسيا فيليبوفنا إلى مايشكن وهي مندهشة، وقالت:
«أمير؟ أهو أمير؟ تصوَّروا أنني منذ قليل، حين رأيته في حجرة المدخل، قد ظننته خادما، فأرسلته إلى هنا ليبلِّغ عن وصولي! ها، ها، ها!»
قال فردِشتشينكو وقد اقترب منها مسرعا، وعليه علامات الارتياح من أنهم بدؤوا يضحكون: «لا يهمكِ — لا يهمكِ! لا بأس بها حتى لو كانت قصتكِ غير صحيحة ...»
«وكنتُ على وشك الإساءة إليكَ أيها الأمير! فأرجوك، اغفر لي. وأنتَ يا فردِشتشينكو، كيف حصل أن جئتَ إلى هنا في مثل هذه الساعة؟ فلم أكن أتوقع مقابلتك هنا، على أيِّ حال.» قالت ناستاسيا فيليبوفنا ذلك، ثم سألت جانيا ثانية، وهو لا يزال ممسكا كتف مايشكن الذي قدَّمه إليها: «مَنْ؟ أيُّ أمير؟ مَنْ هو مايشكن؟»
فأجابها جانيا: «إنه نزيل عندنا.»
لقد كان من الواضح أنهم قدَّموه إلى ناستاسيا فيليبوفنا كشخص طريف نادر، بل فرضوه عليها كشخصية مضحكة إرضاءً لفضولها، وذلك كوسيلة للتهرُّب من المأزق الذي وقع فيه جانيا. أمَّا مايشكن فسمع كلمة «أبله» بوضوح يهمسها أحدهم من وراء ظهره، وربما كان فردِشتشينكو هو الذي قالها، عندما كان يشرح لناستاسيا فيليبوفنا.
تابعت ناستاسيا فيليبوفنا كلامها وهي تفحص مايشكن من قمة الرأس إلى أخمص القدمين دون حرج: «قُلْ لي، لماذا لم تصحِّح لي خطئي منذ قليل، حين ارتكبتُ في حقكَ تلك الغلطة الرهيبة؟»
انتظرتْ ناستاسيا بفارغ الصبر للحصول على إجابة، كما لو كانت متأكدة من أن الإجابة ستكون حمقاء لدرجة أنها تجعلهم حتما يضحكون.
تمتم مايشكن يقول لها: «لقد أدهشتني رؤيتك بشكل مفاجئ.»
«وكيف عرفتني؟ وأين التقيتَ بي قبل اليوم؟ عجيب. فيخيَّل لي حقا أنني سبق أن رأيته في مكان ما! وقُلْ لي، لماذا أنتَ مندهش كثيرا الآن؟ فما الأمر المُدهش فيَّ؟»
قال فردِشتشينكو محاولا أن يكون لطيفا بأسلوب هزلي ومصطنع: «يا سلام! هنيئا لكَ! ما شاء الله! يا إلهي، ماذا كنتُ سأقوله لو كنتُ في مكانكَ! هَلُمَّ أسرِع ورُدَّ عليها! ... وإلاَّ ظَنَنَّا في المرة القادمة بأنك أبله، أيها الأمير!»
قال مايشكن لفردِشتشينكو ضاحكا: «ولكن أنا أيضا يمكنني أن أقول أشياء كثيرة لو كنتُ في مكانكَ.» ثم تابع كلامه مخاطبا ناستاسيا فيليبوفنا: «في هذا الصباح خطفتْ صورتك بصري. وبعد ذلك تحدَّثتُ عنكِ مع أسرة الجنرال ايبانشِن؛ وفي ساعة مبكرة من هذا الصباح، حين كنتُ في القطار، وقبل وصولي إلى مدينة بطرسبرغ، أخبرني بارفيون روجوزهين الكثير عنكِ ... وكنتُ أُفكِّر فيكِ لغاية اللحظة التي فتحتُ لكِ فيها الباب، فإذا أنا أراكِ أمامي.»
«ولكن كيف عرفتَ أنني أنا؟»
«عرفتُ ذلك من رؤيتي للصورة، و ...»
«وماذا؟»
«ولأنكِ كنتِ كما تخيَّلتُكِ ... وأيضا لأنني أشعر بأنني سبق أن رأيتكِ في مكان ما.»
«ولكن أين؟ أين؟»
«يُخيَّل لي أنني سبق أن رأيت عينيكِ في مكان ما ... ولكن هذا مستحيل. فهذا هراء ... فأنا لم أعِشْ هنا قط. ربما في المنام ...»
هتف فردِشتشينكو قائلا: «أحسنت أيها الأمير! إنني أسحب ما قلتُ لناستاسيا فيليبوفنا: ‹حتى لو كانت قصتكِ غير صحيحة.›» ثم أضاف بأسف: «إنَّ هذا كله يعبِّر عن سذاجته وبراءته.»
أمَّا مايشكن الذي كان قد نطق بتلك العبارات القليلة بصوت مُختَلج، فغالبا ما كان يتوقف عن الكلام ليسترد أنفاسه. وكان كل شيء فيه يوحي إلى مشاعر قوية. وكانت ناستاسيا فيليبوفنا تنظر إليه باهتمام، ولكنها لم تكن تضحك الآن.
وفجأة سُمِع قدر كبير من الضوضاء وجلبة العديد من الناس في حجرة المدخل. فبدا للناس الذين في غرفة الصالون كما لو أن العديد من الأشخاص قد دخلوا بالفعل وأن المزيد غيرهم لا يزالون يدخلون. فكانت هناك عدة أصوات تتكلم وتصرخ في آنٍ واحد. وكان هناك صراخ وكلام عند درج المدخل أيضا؛ فمن الواضح أن الباب الذي ينفتح على درج المدخل لم يكن مغلوقا. ويبدو أن الزيارة كانت غريبة للغاية. فأخذ جميع مَنْ في الصالون ينظر بعضهم إلى بعض متحيِّرا. واندفع جانيا إلى غرفة الطعام، غير أن عددا من الزوار كانوا قد دخلوها سلفًا.
فصاح صوت يعرفه مايشكن، يقول: «آه، ها هو يهوذا! كيف حالك يا جانيا، أيها الوغد؟»
وصاح صوت آخر يقول مؤيدا: «نعم إنه هو، هو نفسه.»
فلم يكن مايشكن مُخطِئا: كان الصوت الأول صوت روجوزهين، والثاني صوت ليبيديف.
تجمَّد جانيا على عتبة باب غرفة الصالون مرعوبا، وأخذ ينظر صامتا، دون أن يحاول اعتراض دخول الأشخاص العشرة أو الاثني عشر الذين كانوا يسيرون وراء بارفيون روجوزهين وهو يدخل غرفة الطعام. وكانت هذه المجموعة خليطا عجيبا، لا يتميَّز أفرادها بتنوُّعهم فحسب بل بفوضاهم أيضا. إذ دخل بعضهم بفرواتهم ومعاطفهم دون أن ينزعوها في المدخل. ولم يكن أيٌّ منهم في حالة سكر تامة، رغم أنهم بدوا جميعا منتعشين للغاية. وكان يظهر أن كُلاًّ منهم في حاجة إلى دعم معنوي ومساندة وتشجيع من الآخر لكي يدخل؛ وما كان لواحد منهم أن يجرؤ على أن يدخل لو كان بمفرده، ولكنهم كانوا كَمَنْ يدفع بعضهم بعضا إلى الدخول. حتى أن روجوزهين الذي كان على رأسهم، دخل وهو غير واثق من نفسه؛ إلاَّ أنه كان ينوي على شيء معين، وكان يبدو في حالة من الانشغال بمشاعر الكآبة والغضب. أمَّا الآخرون فكانوا مجموعة من الناس حضرت لمجرد دعمه. وكانت المجموعة تضمُّ ليبيديف بالإضافة إلى زاليوزخِف الذي اهتم بتجعيد شعره اهتماما كبيرا، وترك فروته في حجرة المدخل، ودخل طلقا متبخترا. وكان يوجد في المجموعة شخصان أو ثلاثة أشخاص من الطراز نفسه، وكان واضحا أنهم من صغار التجار؛ فكان أحدهم يرتدي معطفا سميكا طويلا شبه عسكري؛ والآخر قصير سمين جدا ما ينفك يضحك بغير انقطاع؛ والآخر ضخم يكاد يبلغ طوله مترين، وجسيم البدن، ومُتحفِّظ في كلامه ومُتجهِّم الوجه، الذي يبدو واضحا عليه بأنه يتَّكِل على قبضتي يديه. وكان هناك طالب في الطب، ورجل بولندي صغير الجسم انضمَّ إلى هذه المجموعة بطريقة ما. ووقفت عند الباب الأمامي سيدتان يصعب تصنيفهما وكانتا تنظران إلى الداخل، ولكنهما لم تجرؤا على الدخول. فصَفَق كوليا — أخو جانيا — في وجههما الباب وأغلقه بالمِزلاج.
«كيف حالك أيها الوغد جانيا! لم تكن تتوقع أن ترى بارفيون روجوزهين، أليس كذلك؟» فهكذا ردد بارفيون روجوزهين حين وصل إلى باب الصالون، فوقف مُواجِها جانيا.
ولكنه، في تلك اللحظة، لمح ناستاسيا فيليبوفنا وهي جالسة في الجهة المقابلة له في غرفة الصالون. وقد تبيَّن بجلاء أن رؤيتها هناك كانت من أكثر الأمور التي استبعدتها توقعاته، فما أن رآها حتى أحدثت رؤيتها في نفسه تأثيرا خارقا. فإذا هو يبلغ من الشحوب لدرجة أن شفتيه أصبحتا زرقاوين.
فقال بصوت خفيض، كأنما هو يُحدِّث نفسه، وبدا متحيِّرا للغاية: «ما يقال صحيح إذن.» ثم قال مخاطبا جانيا من بين أسنانه، وهو ينظر إليه نظرة تفيض بغضب خانق: «انتهى الأمر! ... يجب أن تدفع الثمن! اللعنة!»
أخذ روجوزهين يلهث، ولم يكد يستطيع أن يتكلم. وانتقل لا شعوريًّا إلى غرفة الصالون، ولكنه عندما دخل، رأى فجأة الوالدة نينا أليكساندروفنا وفاريا، فتوقف شاعرا ببعض الخجل رغم كل انفعاله. ودخل ليبيديف وراءه، يتبعه كظله، وكان سكرانا جدا؛ ثم دخل الطالب، فالعملاق صاحب القبضتين، ومن ثم زاليوزخِف، وهو يقدِّم انحناءة احترام لليمين ولليسار، وفي الأخير دخل الرجل القصير السمين وهو يحاول أن يَشُق لنفسه طريقا. ولكن مع ذلك، كان وجود السيدتين بمثابة رقيب عليهم، وكان من الواضح أن وجودهما يُمَثِّل قيدًا غير مرحب به، الذي كان طبعا سيجري تجاهله بمجرد إعطائهم إشارة المباشرة، أيْ بمجرد ظهور ذريعة تصاعد الصراخ وبدء الصياح. عندئذ، لن تعيقهم كل سيدات العالم.
قال روجوزهين في ذهول، وهو مندهش بعض الشيء لرؤية مايشكن: «ماذا، هل أنتَ أيضا هنا، أيها الأمير؟» وتابع قوله وهو يتنهَّد: «ولا تزال مرتديا اللبادتان على حذاءيك، هَاهْ؟» ونسي وجود مايشكن وعاد ينقل ببصره إلى ناستاسيا فيليبوفنا مرة ثانية، وهو يقترب منها، كما لو أن مغناطيسا يجذبه.
وكانت ناستاسيا فيليبوفنا، هي أيضا، تحدِّق في الدخلاء قلقة مستطلعة.
وأخيرا استعاد جانيا السيطرة على نفسه، وأخذ يقول بصوت عالٍ وهو يلقي على الدخلاء نظرة قاسية، مخاطبا روجوزهين على وجه الخصوص: «اسمحوا لي! ما معنى هذا؟ فهذا المنزل، أيها السادة، ليس إسطبلا، فإنَّ والدتي وأختي موجودتان هنا.»
فتمتم روجوزهين وهو يكزُّ على أسنانه: «نحن نرى أن والدتك وأختك موجودتان هنا.»
وشعر ليبيديف بأنه مُلزم بتعزيز هذا البيان، فقال: «يمكن رؤية ذلك، أن والدتك وأختك موجودتان هنا.»
وأمَّا صاحب القبضتين فأخذ يزمجر، لأنه شعر بأن الوقت قد حان من دون ريب.
فصاح جانيا، الذي انفجر غضبا فجأة رافعا صوته بشكل غير معقول، قائلا: «يا إلهي!» ثم أكمل كلامه: «أولا، أرجوكم أن تنتقلوا كلكم إلى الغرفة الأخرى، وثانيا، رجاء، قولوا لي ...»
ضحك روجوزهين ضحكة شريرة ساخرة دون أن يتحرَّك من مكانه، وقال: «عجيب! إنه لا يعرفني! ألا تعرف روجوزهين؟»
«أنا بالتأكيد التقيتُ بكَ في مكان ما، ولكن ...»
«هه! التقيتَ بي في مكان ما! أنسيتَ إذن أنكَ منذ أقلَّ من ثلاثة أشهر قد ربحتَ مني بالقمار مئتي روبل التي كانت من أموال أبي؟ لقد مات الشيخ المسكين قبل أن يتسع وقته لمعرفة ذلك. وأنتَ جررتني إلى اللعب، وصاحبكَ نايفف تولَّى الغش. أفلا تعرفني إذن؟ فقد كان بتسيتشين شاهدا على ذلك. فلو أريتُكَ ثلاثة روبلات من جيبي، فسوف تزحف على أطرافكَ الأربع إلى جزيرة فاسيليفسكي من أجل الحصول عليها — فهذا هو أنتَ! وتلك هي نفسك الخسيسة! وإنما جئتُ الآن إلى هنا لأشتريكَ نقدًا. ولا تنزعج من مجيئي إليكَ مُرتديا مثل هذا البوت الطويل. فقد جاءتني الآن نعمة من المال، يا صاحبي، ففي وسعي أن أشتريكَ أنتَ بأسركَ وجميع ثروتكَ الحيوانية أيضا. ولو شئتُ لاشتريتكم جميعا! وسأشتري كل شيء!» وكان روجوزهين يزداد انفعالا، ويبدو أشدَّ سكرا لحظة بعد لحظة، فصاح يقول: «اللعنة! لا ترفضيني يا ناستاسيا فيليبوفنا. وقولي لي أمرا واحدا: أأنتِ مُقبلِة على الزواج به أم لا؟»
لقد ألقى روجوزهين هذا السؤال بشكل يائس، كما لو كان يناشد إلاهًا، ولكن بشجاعة رجل محكوم عليه بالإعدام وليس لديه ما يخسره. وراح ينتظر ردَّها بقلق قاتل.
ألقت عليه ناستاسيا فيليبوفنا نظرة ساخرة متعالية من أعلاه إلى أسفله. ولكنها بعد أن ألقت بصرها على فاريا ونينا أليكساندروفنا، نظرت إلى جانيا، فغيِّرت نغمة صوتها فجأة، وقالت تجيب روجوزهين في رفق وجدٍّ، بصوت تلوح فيه الدهشة:
«لا، أبدًا، ماذا دهاك؟ ثم كيف خطر ببالك أن تُلقي عليَّ مثل هذا السؤال؟»
فصاح روجوزهين وهو بحالة شبه محمومة ومصحوبة بالسرور: «لا؟ لا! أصحيح أنكِ لن تتزوَّجيه؟ ولكنهم أخبروني بأنكِ ... آه ... حسنا. يا ناستاسيا فيليبوفنا، إنهم يقولون إنكِ مخطوبة لجانيا. لمثل هذا الرجل! وكأن ذلك ممكنٌ! لقد قلتُ لهم كلهم إنَّ ذلك الخبر مستحيل. ففي وسعي أن أشتريه كله بمئة روبل. فإذا أعطيته ألف روبل، أو قولي ثلاثة آلاف روبل، للانسحاب، لهرب عشيَّة يوم زواجه تاركا عروسته لي. أليس هذا صحيحا يا جانيا، أيها الوغد؟ كنتَ ستأخذ الثلاثة آلاف، أليس كذلك؟ فها هو المال — خُذْه! فقد جئتُ لجعلك توقِّع اتفاقية بالعدول عن الزواج. وقلتُ سأشتريك، ولسوف أشتريك فعلا!»
فصرخ جانيا يقول وهو يحمرُّ ثم يصفرُّ: «أخرج من الغرفة! أنت سكران!»
تلت هذه الصرخة انفجار مفاجئ من عدة أشخاص في آن واحد: إذ كان الطاقم بأكمله من أتباع روجوزهين يترقبون كثيرا إشارة المعركة. وها هو ذا ليبيديف يهمس باهتمام في أذن روجوزهين ببعض الكلام.
أجاب روجوزهين: «أصبتَ أيها الموظف! أصبتَ يا أيها المخمور! حسنا، لنبدأ!» ثم صرخ يقول وهو ينظر إلى ناستاسيا فيليبوفنا كالمجنون، متحوِّلا من حالة الجُبن إلى حالة الجرأة بأقصى درجاتها: «يا ناستاسيا فيليبوفنا! هنا ثمانية عشر ألف روبل! ها هي! و ... هناك المزيد في طريقها إليكِ!» قال ذلك وهو يلقي على الطاولة أمامها حزمة ملفوفة بورق أبيض، ومربوطة بخيط خشن.
لم يجرؤ على أن يقول ما كان يريد.
همس ليبيديف في أذنه مرة أخرى يقول وهو غير راضٍ: «لا، لا، لا!»
كان واضحا أن ضخامة المبلغ قد روَّعته، وأخذ يحثُّه على تجريب حظه بمبلغ أصغر من هذا بكثير، فأجابه روجوزهين:
«لا يا أخي، في هذه النقطة أنتَ غبي؛ فأنت لا تعرف كيف تتصرَّف في هذه المواقف ...» ولكنه عندما رأى الشرر يتطاير من عيني ناستاسيا فيليبوفنا، أرتجف، وتنبَّه على نفسه، وتغيَّر موقفه، وأخذ يقول: «ويبدو كما لو أنني، أنا أيضا، غبي مثلكَ!» ثم أضاف قائلا بأسف شديد: «إيهٍ من فعلتي! لقد أفسدتُ الأمر بسبب استماعي لكلامكَ.»
ضحكت ناستاسيا فيليبوفنا فجأة وهي تنظر إلى وجه روجوزهين المُكتئب، ثم أضافت تقول بلهجة وقحة ومتماينة الوُدِّ، وهي تنهض عن الكنبة وكأنها تريد الانصراف: «ثمانية عشر ألف روبل، لي أنا؟ آه، يمكننا رؤية حال الفلاح الفقير!» أمَّا جانيا فكان يراقب المشهد وهو مُنقبِض القلب.
فصاح روجوزهين يقول: «أربعون ألفا إذن، أربعون ألفا لا ثمانية عشر! لقد وعدني مُقرِض الأموال بتسيتشين، خطيب فاريا، وأيضا بسكوب بأن يدفعا لي أربعين ألف روبل في الساعة السابعة! أربعين ألف روبل! عدًا ونقدًا!»
أصبح المشهد فاضحا إلى أقصى الحدود، ولكن ناستاسيا فيليبوفنا بقيت هناك ومستمرة في الضحك، وكأنها كانت تطيل ضحكها عمدًا. وقد نهضت أيضا الوالدة نينا أليكساندروفنا وابنتها فاريا من مكانهما، ووقفتا تنتظران بارتياع صامت لرؤية ما عسى أن ينتهي إليه الأمر. فأمَّا فاريا فعيناها تلتمعان، وأمَّا نينا أليكساندروفنا فقد هزَّها تعاقُب الأحداث هذا هزًّا قويًا، فهي ترتجف حتى لتكاد تسقط مغشيا عليها.
«إذا كان الأمر كذلك، فإنني أرفع المبلغ إلى مئة ألف! نعم، في هذا اليوم نفسه سأدفع مئة ألف روبل. بتسيتشين، أقرضني المبلغ، وأنتِ تستحقين كل هذا الجهد والعناء!»
همس فجأة بتسيتشين في أذن روجوزهين وهو يقترب منه بسرعة وأخذ بيده قائلا له: «أنتَ مجنون، أنتَ مجنون! سوف يستدعون الشرطة! أين تظن نفسكَ؟»
قالت ناستاسيا فيليبوفنا وكأنها تسخر منه: «إنه سكير ومتباهٍ!»
فأخذ روجوزهين يصرخ قائلا وقد غمرته حماسته: «لا، أنا لا أتباهى! سأحصل على المال قبل مساء اليوم. يا بتسيتشين، أقرِضني هذا المبلغ، يا مرابي القروض! وأطلب ما تشاء مقابله من رِبا. أحضر لي مئة ألف روبل هذا المساء! وسوف أبرهن أنني لن أتوقف عند أيِّ حدٍّ.»
وصاحت فاريا فجأة وهي ترتعش غضبا: «هل يعقل أن لا يكون بينكم مَنْ يستطيع إخراج هذه القليلة الحياء من هنا؟»
فردَّتْ عليها ناستاسيا فيليبوفنا ببشاشة هازئة: «يسمونني امرأة قليلة الحياء، وأنا التي جئتُ إليهم كشخص أحمق لأدعوهم إلى حفلتي هذا المساء. فهكذا تعاملني أختكَ، يا جافريال ارداليونوفيتش!»
وقف جانيا مُتجمِّدا لوقت طويل كما لو كان مصعوقا بهيجان أخته فاريا، ولكنه حين لاحظ أن ناستاسيا فيليبوفنا عازمة في هذه المرة على أن تنصرف حقا، هجم على فاريا كالمجنون فأمسك بذراعها بحنق شديد. وصاح عليها يسألها وهو ينظر إليها كَمَنْ يريد أن يحيلها إلى رماد على الفور: «ماذا فعلتِ؟»
كان قد خرج عن طوره تماما، ولم يكد يدري ما كان يفعله.
صرخت فاريا ثانية تقول وهي ترشق أخاها بنظرة انتصار وتحدٍ: «ماذا أنا فعلتُ؟ وأنتَ إلى أين تجُرُّني؟ أتراكَ تريد مني أن أقدِّم إليها اعتذاري هي التي أهانت والدتكَ، وجاءت إلى هنا لتغطي بيتكَ كله بالعار، أيها المخلوق المُنحَط؟»
ولبثا على هذه الحال بضع لحظات، وجها لوجه. وكان جانيا لا يزال ممسكا ذراع أخته بيده. وحاولت فاريا مرتين أن تخلِّص ذراعها من قبضته بكل قوتها، ولكنها لم تفلح، فإذا هي بعد ذلك تخرج عن طورها فتبصق في وجه أخيها.
صرخت ناستاسيا فيليبوفنا تقول: «يا لها من فتاة! مَرْحَى! يا بتسيتشين، أنا أهنئكَ!»
حلَّت على عيني جانيا غشاوة وكأنه أصيب بدوار، وفقد السيطرة على نفسه تماما، فرفع يده يريد أن يضرب أخته بكل قواه. وكان يمكن أن تسقط يده على وجهها لولا أن يدا أخرى أمسكت بذراعه بسرعة فأوقفتها. لقد وقف مايشكن بين الأخ وأخته.
فقال مايشكن بإصرار: «لا تفعل ذلك، كفى،» ولكنه كان يرتعش من أعلاه إلى أسفله وكأنه كان مصدوما صدمة قوية للغاية.
زَأر جانيا صائحا: «عليكَ اللعنة! هل أجدكَ دائما في طريقي؟» فترك جانيا ذراع فاريا، وأصبحت يده طليقة، وكان قد بلغ ذروة السخط، فإذا هو ينزل بيده الطليقة على وجه مايشكن صفعة قوية.
صاح كوليا يقول وهو شابك أصابع يديه ومتضرعا: «آه ... آه! يا إلهي!»
سُمِعتْ صيحات من جميع الجهات. وأصبح وجه مايشكن شاحبا، ونظر إلى عيني جانيا بنظرة غير عادية ومليئة بالتوبيخ؛ وكانت شفتاه المختلجتان تحاولان أن تنطقا بشيء ما؛ فتحوَّلَتا إلى ابتسامة عجيبة على نقيض تام من الأجواء المتشنجة، وقال أخيرا بلطف:
«حسنا، لا ضير إن ضربتني ... أمَّا هي فلن أسمح لكَ بضربها!»
ولكنه انهار فجأة، فترك جانيا، وأخفى وجهه في يديه، واتجه نحو زاوية الغرفة، ووقف ووجهه نحو الحائط، وقال بصوت متقطِّع:
«آه، ما أشدَّ الخزي الذي ستشعر به من جراء فعلتك!»
وكان جانيا فعلا واقفا ومُحطَّما كليًّا. وهرع كوليا إلى مايشكن لضمِّه إلى صدره وتقبيله. وتبعه روجوزهين، وفاريا، وخطيبها بتسيتشين، ونينا أليكساندروفنا — وتبعه الجميع حتى الجنرال؛ فاحتشدوا كلهم حول مايشكن.
تمتم مايشكن قائلا وهو لا يزال يبتسم تلك الابتسامة غير المألوفة نفسها: «لا بأس! لا بأس!»

لوحة خشبية منقوشة بيد الرسام الأمريكي ذي الأصل الألماني فريتز آيشنبرج Fritz Eichenberg ومنشورة بإذن من: Fritz Eichenberg, Associated American Artists The Heritage Club, and the Limited Editions Club .
وصرخ روجوزهين: «لسوف يندم على ما فعل. وستخجل يا جانيا من أنكَ أسأتَ إلى مثل ... هذا الخروف.» (فإنه لم يجد كلمة أخرى غيرها). وأردف قائلا: «عزيزي الأمير، اتركهم؛ اِلْعَنْهم وتعال معي. وسأريك أن روجوزهين يمكن أن يكون صديقا حقيقيا.»
تأثَّرت ناستاسيا فيليبوفنا، هي أيضا أشدَّ التأثُّر من فعلة جانيا وبجواب مايشكن أيضا. فإنَّ وجهها الذي عادة ما يكون شاحب اللون ويعبِّر عن شرود الذهن، الذي كان يبدو طوال الوقت غير منسجم كليًّا مع ضحكها المصطنع، قد غيَّرته الآن بكل وضوح مشاعر جديدة. ومع ذلك، يبدو أنها لا تزال غير راغبة في التخلِّي عن أسلوبها المصطنع، وتحاول الحفاظ على تعابير معينة من الاستهزاء والسخرية.
وفجأة تذكَّرتْ سؤالها السابق لمايشكن، وقالت وهي تتكلم بجديَّة الآن: «لقد رأيتُ وجهه بالتأكيد في مكان ما.»
فصرخ مايشكن فجأة يقول لناستاسيا فيليبوفنا بلهجة فيها تأنيب صادق ووجداني: «وأنتِ، ألا تشعرين بخجل؟ فأنتِ بالتأكيد لستِ تلك المرأة التي تتظاهرين بها الآن!»
فُوجِئَتْ ناستاسيا فيليبوفنا بكلامه، وابتسمت، وبدا عليها كأنها تُخفي شيئا ما تحت ابتسامتها. ونظرت إلى جانيا، وهي مضطربة إلى حدٍّ ما، ثم خرجت من غرفة الصالون. ولكنها قبل أن تصل إلى المدخل، عادت أدراجها، وذهبت بسرعة إلى نينا أليكساندروفنا، فتناولت يدها وحملتها إلى شفتيها. فقالت لها بهمسة سريعة من كل قلبها، وقد احمرَّ وجهها: «إنه على حقٍّ، فأنا في الحقيقة لستُ هكذا.» ثم استدارت وخرجت بسرعة كبيرة بحيث لم يَتَسَنَّ لأيِّ شخص هناك أن يدرك سبب عودتها.
المقالة مقتطفة من كتاب: «الإنجيل في روايات دوستويفسكي»
[1] جانيا اسمه مختصر لاسم جبرائيل، واسمه الكامل جافريال ارداليونوفيتش.