Subtotal: $
Checkout
إنَّ الأستاذة الجامعية الدكتورة أليس فون هيلدابراند هي أرملة الفيلسوف الألماني المناهض للنازية الأستاذ ديتريش فون هيلدابراند Dietrich von Hildebrand. وقد درَّست أليس الفلسفة في كلية هنتر Hunter College، الواقعة في مانهاتن، نيويورك، لمدة 37 سنة إلى أن أُحيلت على التقاعد في عام 1984م. وإضافة إلى أنها قد كتبت العديد من الكتب. وهي بالأصل من بلجيكا، إلاَّ أنها جاءت إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1940م. وفي مقابلة صحفية مطولة أُجريت في شقتها في مانهاتن، نيويورك، في أكتوبر الماضي تحدثت أليس، وعمرها 88 عامًا، عن مواضيع متعددة بدءً بدور المرأة في المجتمع وإلى الزواج والعزوبة وانتهاء بالمصير الخالد للروح البشرية. وهذه المقالة هي واحدة من سلسلة المقالات المقتطفة من ذلك اللقاء الصحفي:
هل فكرت مرة في المتعة؟ وعادة ما نرى المتعة على أنها إرضاء للجسد. ولكن لنقُلْ، على سبيل المثال، أنك تتناول طعامًا لذيذًا. فأين تحدث المتعة بالتحديد؟ حتمًا ليست في قدمك. لأن أصبع قدمك الكبير لا يتمتع بالطعام.
وعند سماعك للموسيقى، أتظن أن أذنيك تُدغدَغُ بها؟ طبعًا لا. (وأقصد بالموسيقى هنا، الموسيقى الكلاسيكية، فلا تعرفون مدى سعادتي عندما أستمع إلى الأعمال الموسيقية للموسيقار موزارت). وعندما ترى منظرًا طبيعيًّا خلابًا، فهل تتحسس جماله بعينيك؟ طبعًا لا. فهناك شيء أكثر من ذلك. إذ تتضمن هذه الأمور على أحاسيس ومعاني روحية.
وإذا فقدت إحساسك بمعنى الحياة، أو بمحبة الله، أو بمحبة أخيك الإنسان، وإذا فقدت المعنى الروحي لبذل الذات والمشاركة، فماذا بقي؟ لم تبقَ سوى المتعة الجسدية. لكن المتعة بحد ذاتها هي مأساة كما تعلم. لأنه عندما يكون لديك شهوة، ستتزايد هذه الشهوة تدريجيًّا وستستفحل، وبعدئذ، وبعدما تُشبِع تلك الشهوة، فماذا تكون قد جنيت سوى لحظة مثيرة من الارضاء في مكان ما في جسدك؟ ثم ينتهي الأمر. وماذا بعد ذلك؟ فيجب عليك أن تبدأ من جديد. فلا توجد متعة أو مجموعة من المتع تدوم إلى الأبد. لأن سمة المتعة هي أنها لفترة قصيرة.
ولكن الله قد خلقنا من أجل الخلود. فالذي نشتاق إليه أكبر مما يمكن للمتعة أن تقدِّمه.
فما معنى أن تكون مخلوقًا من أجل الخلود؟ إنه يعني أن هناك شيئًا ما في داخلك سيدوم إلى الأبد، وإلى أبد الآبدين. وفي البناية السكنية التي توجد فيها شقتي، يوجد أناس شتى؛ إنها عالم مصغر من البشر. وأشعر أحيانًا بالأسف الشديد لحال الناس، لأنه يبدو أن كل ما يقومون به هو كسب المال وكسب المزيد من المال — ولكن لماذا كل هذا؟ فلن يأخذ الإنسان ذهبه معه في التابوت. ومع ذلك، لا يعيش الكثير منهم إلاَّ للمتعة؛ وينسون أنهم مخلوقون في الحقيقة من أجل الخلود.
أمَّا المتعة فتنتهي دائمًا. فقد فقدتُ حاسة الذوق قبل بضعة أشهر. فعندما آكُلُ شيئًا فكأنه كله طباشير أو رمل أو ما شابه ذلك. فلا أتمكن من تذوُّق أيِّ شيء. فقد تبخرت المتعة. ومع ذلك لا بد لي من إطعام نفسي لأني من دون الأكل تعرف ماذا سيحلُّ بي. وهكذا فقدتُ متعة الأكل. وقد أدركتُ الآن لأول مرة في حياتي مدى جود الله عندما يتكرم علينا نحن البشر بحاسة الذوق. لأنني كنتُ لحد الآن أعتبر حاسة الذوق شيئًا مُسَلَّمًا به. وبدأتُ الآن أسأل نفسي: هل كنتُ أشكر الله فعلاً على عطية متعة التذوُّق؟
ولكن الآن — يرجى الاستماع، فهذا أمر بالغ الأهمية — فيجب أن نُقدِّم الشكر لله ما دمنا نحصل على المتعة، وما دمنا نتمتع بها حقًّا. فيجب أن نربط المتعة بالامتنان. عندئذ، وفي هذه الحالة، لا تُعتَبر المتعة مجرد إحساس جسدي، بل ستكون تجربة مفرحة. فهل ترى الفرق؟ ولكن ما يريده الناس اليوم وللأسف هو مجرد المتعة، وعليه نرى أن ما ينقصهم هو الفرح الحقيقي عندما يركضون وراء أهواء جسدهم. وهذا أمر محزن لأن الفرح هو الذي يرضي النفس حقًّا.
لقد درَّستُ مرة في دورة تعليمية عن علم الميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة، علم فلسفي يتناول مفهوم الوجود والكون)، وحاولتُ تقديم الحجج والدلائل التي تدلُّ على خلود الروح. فأخذتُ أجادل قائلة: سيموت جسدي – ربما قريبًا – ولكن لن تفنى روحي. واسترسلتُ في طرح حالتي عليهم. وفي النهاية، رفع أحدهم يده وقال: «إذا نجحتِ في اقناعي بأن روحي خالدة، فسأصرَّح الآن بأنكِ من ألدِّ أعدائي. لأنه إذا كانت روحي خالدة كما تقولين، أصبحتُ متحملاً مسؤولية ذنوب أسلوب حياتي الحالي.» فاِنفطر قلبي حزنًا عليه بكلامه هذا.
فتأمَّل هذا: إنَّ كل واحد مِنَّا سيتحمل مسؤولية أسلوب حياته. والسبب يرجع إلى أننا مخلوقون لا لنفنى. فلا تتضمن حياتنا – أو على الأقل يجب ألا تتضمن – مُتعًا زائلة فقط. فيجب علينا أن نُركِّز على أمور لها قيمة أبدية. غير أن عددًا كبيرًا مِنَّا يسعى لتحقيق أقصى قدر من المرح والسرور، وجعل المُتع أكثر حِدَّة، وتدوم لفترة أطول. ونحن البشر نحاول بكل وسيلة القضاء على المعاناة التي في حياتنا. وبالتأكيد أن تسكين الأوجاع طبيًّا والتخفيف من وطأة الآلام له مكانه وأهميته في الحياة. ولكن لا يمكننا أن ننسى رسالة المسيح: «مَنْ أرادَ أنْ يَتبعَني، فلْيُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ ويتبَعْني.» (متى 16: 24)
إنَّ طريق المسيح يمر بالمعاناة — وهو في النهاية، طريقته في الخلاص الذي يناله كل من يتبعه. فقد عرف المسيح المعاناة. وقد عرف الألم. وعرف الخوف. نعم، حتى المعاناة لها معنى. لهذا تعتبر نعمة الإيمان بركة كبيرة، إذ تعرف بفضلها أن الله قد خلقك وأحبك، وله خطة لحياتك ما وراء وجودنا الزمني في هذه الدنيا. فيا لها من بركة حقيقية عندما تعرف أن روحك خالدة وتحترمها على هذا النحو. فاحترم روحك، واحترم أرواح الذين من حولك. عندئذ سيكون لحياتك معنى خالد.