لا نريد من هذه المقالة الاستعلاء على غيرنا من الناس الذين قد أخفقوا في إتِّباعهم ليسوع المسيح، أو لم يكونوا على علم وتنوير كافيين بجوهر رسالة ملكوت الله التي جاءت على يد يسوع المسيح، لأن الكثير مِنَّا قد أخفق في ذلك، ولكن روح يسوع المسيح، الروح القدس، يحثُّنا باستمرار على تنقية حياتنا، وإزالة كل ما هو غير مسيحي من حياتنا، بالتوبة ومغفرة الخطايا، ومواصلة المسير في طريق المسيح بكامل الفرح والشكر على نعمة الغُفران العظيمة، التي تعطينا فرصة جديدة دائمًا. فماذا كان حالنا بدون نعمة الغفران والتجَدُّد؟ فلا نبغي شيئًا من هذه المقالة سوى الإصلاح.

فهذه المقالة تتناول الكيفية التي زاغ فيها المسيحيون، وحادوا عن موقف المسيحيين الأوائل في القرون الثلاثة الأولى بعد المسيح، ذلك الموقف الذي كان يتسم بالوضوح الكامل من موضوع الحرب والعنف وسفك الدماء. فقد استشهد الكثير من المسيحيين الأوائل بسبب إيمانهم هذا، وبسبب رفضهم لحمل السلاح، وسفك دماء الآخرين، وعدم قتل حتى الذين يُسمون أعداء، تمامًا مثلما علمنا إياه يسوع المسيح. إلاَّ أن فتور الكنيسة في القرون التي تلت، واجتياح العولمة لها، الذي زاد تدريجيًّا مع حلول القرن الميلادي الرابع، مهد السبيل للزواج الذي حصل بين الكنيسة والإمبراطورية الرومانية (أيْ بمعنى الارتباط الوثيق بين الكنيسة والدولة وحكوماتها بصورة عامة). فقد كانت مساومة محضة وفظيعة على مبادئ المسيح، حيث دفع ولا يزال يدفع ثمنها الكثيرون في العالم.

ولادة العنف المسيحي

إنَّ أغلب المسيحيين يتكلمون ويتصرفون بطريقة وكأن الديانة المسيحية ابتدأت في القرن الميلادي الرابع مع القديس أوغسطينوس (ولادة 354– وفاة 430م). والكثير منهم لا يقرؤون الكتاب المقدس، حتى إنَّ الذين يستشهدون بآيات من العهد القديم والجديد ليس لديهم أيُّ إلمام بآباء الكنيسة الأولى؛ وعليه، فهم ليس لديهم إلمام بلاهوت الـ 300 سنة الأولى لكنيسة المسيح. وعندما نلقي نظرة واحدة على أحد البحوث الشهيرة حول تاريخ الفلسفة، على سبيل المثال، نرى أنه يقدِّم لنا مئات الصفحات من الفلسفة اللاهوتية، أمَّا فكر الكنيسة في الـ 300 سنة الأولى عن هذا الموضوع فقد تم اختصاره إلى مجرد 15 صفحة. وهذا يعكس قِلَّة تأكيد الكتب المنهجية المسيحية في السابق على هذه المرحلة للكنيسة.

ولكن في الآونة الأخيرة، قدَّم لنا العديد من الكُتَّاب شرحًا وافيًا أعطانا فكرة واضحة عما كان يجري في تلك المدة الزمنية العجيبة، التي لم تكن لحد الآن قد جرى التأكيد عليها. فعندما أوصانا المسيح بأن نعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله، لم تكن هذه رخصة للحكومة السياسية لتأمر فيها المسيحيين بأن يعاملوا الآخرين معاملة غير مسيحية، أي بمعنى معاملة مخالفة لوصايا المسيح.

وعندما أصبح الإمبراطور قسطنطين العظيم Constantine the Great (نحو 272–337م) مسيحيًّا وأنهى اضطهاد المسيحيين، وعندما جعل لاحقًا الإمبراطور ثيودوسيوس الأول Theodosius I (347–395م) المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية بقوة القانون، في بداية القرن الميلادي الرابع، أصبح قانون روما ونظامها هما الأساس الجديد الذي تستند عليه الكنيسة لاتخاذ مواقفها بشأن مواضيع مثل السلام والحرب. وقد تمَّ إسكات أصوات أثيناغوراس Athenagoras (نحو 133–190م) وايريناؤس Irenaeus (القرن الثاني–202م) وترتيليان Tertullian (نحو 160– نحو 220م) وغيرهم من مسيحي القرون الأولى، بواسطة تعاليم أثناسيوس Athanasius (ما بين 296 و 298–373م) وتعاليم أمبروز Ambrose (ما بين 337 و 340–397م) وتعاليم أوغسطينوس.

أمَّا أثناسيوس هذا، الذي كان من أحد قادة الكنيسة، وذا نفوذ في مجمع نيقية Nicea، فقد دعم بعض صيغ العنف واستعمال القوة والقتل. فقد قال: «إنَّ القتل غير مسموح به، أمَّا قتل العدو في الحرب فهو شرعي وجدير بالثناء أيضًا.» فيا له من تغيُّر مقارنة بما كان يجري تعليمه قبل تلك الفترة على يد الكنيسة الأولى! وشتَّان ما بين الاثنين! فها هو أثناسيوس العضو السياسي لمجمع الكنيسة في نيقية، والشخصية القانونية الرئيسية للتشريع الكنسي في المجمع، ينضم إلى جانب قسطنطين (الإمبراطور) ليكمِّل الزواج بين الكنيسة وروما.

أوغسطينوس Augustine

في الوقت الذي كان فيه أثناسيوس يساعد في وضع الكنيسة تحت سيطرة الإمبراطور قسطنطين، لم يكن أوغسطينوس مسيحيًّا وقتذاك. فبعد أن كان أوغسطينوس وثنيًّا، ومن ثم مانويًّا (الديانة المانوية Manichaean)، صار يتلقَّن تعليمه المسيحي على يد أمبروز. وكان بعض المسيحيين خلال ذلك الوقت يخدمون فعلاً في الجيش، على عكس موقف ماكسيميليان الشهيد Maximilian (ولادة 274– وفاة 295م) الذي ضحَّى برأسه رافضًا أداء الخدمة العسكرية. وقد أيَّد أمبروز فكرة الحرب العادلة، التي جاءت على يد أثناسيوس، التي وضعت حجر الأساس لتفكير كهذا في ذهنية أوغسطينوس. وقد أصبح أوغسطينوس أسقفًا على مدينة هيبون Hippo (تدعى حاليًا عنابة في الجزائر)، وأخذ يكتب من منصب ذي انخراط سياسي قريب من الحكومة، لأنه في ذلك الوقت كان زواج الديانة المسيحية مع روما قد بدأ في التهيئة له منذ 50 عامًا.

وكانت الإمبراطورية الرومانية وقتذاك تتعرض للهجوم والغزوات في أوروبا وأفريقيا من قِبل الوَندال Vandals (وهي قبائل جرمانية شرقية). وقد طُلِب من أوغسطينوس الدفاع عن موقف الحكومة في توجيهها التُّهَم إلى المسيحيين، وهذه التُّهَم مفادها أنَّ المسيحيين لا يقدِّمون ولاءهم للإمبراطورية في ذلك الوقت العصيب من التهديدات الحربية التي كانت تتعرض لها الإمبراطورية. ونحن نعلم بأن هذه القضية قد أُثيرت قبل ذلك الوقت، في القرون الثلاثة الأولى، وتمَّ الرد عليها من قبل أوريجانوس Origen (ولادة 185– وفاة 254م). فقد صَرَّح المسيحيون في ذلك الوقت بأنهم لن يقدِّموا ولاءهم للإمبراطورية في هذه الحالة الحربية، وبأن للصلاة وشهادة الحياة المسيحية مفعول أقوى من القتل وسفك الدماء. فهل كان ردُّ أوغسطينوس مماثلاً؟ كلا.

كان ردُّه، الذي أُعتبِر من أكثر تصريحات الكنيسة موثوقية في ذلك الوقت حول هذا الموضوع، أنَّ الفرد (المسيحي) يحقُّ له الخدمة في الجيش وخدمة الله أيضًا. ويجب أن لا ننسى أنه قبل هذا الوقت بوقت قصير، رفض معظم المسيحيين أن يدافعوا عن أنفسهم، أو عن حكومتهم أو أن يردوا على الانتهاكات بحقِّ دينهم، بوسائل العنف والقوة والقتل وإراقة الدماء. أمَّا أوغسطينوس فقد خالف هذا المبدأ إلى درجة كبيرة. فقد قال إنه لا يحقُّ للمسيحي الدفاع عن نفسه، لأن القتل من أجل الدفاع عن الأمور الزائلة يبيِّن بوضوح تعلُّقه المفرط بها، وبالتالي يقترف إثمًا. ولكن أوغسطينوس أضاف قائلاً إنَّ الشخص يحقُّ له أن يكون مسيحيًّا وجنديًّا رومانيًّا في آن واحد، وأن يقتل نيابة عن سلطة الدولة. وعندما توصَّل إلى هذا الاستنتاج، كان البرابرة قد وصلوا إلى أبواب مدينة هيبون. وقال:

«يجب أن يكون السلام غايتكم؛ ويجب أن لا تُشَنُّ الحرب إلاَّ على سبيل الضرورة، ولا تُشَنُّ إلاَّ ليُحرر بها الله الناس من هذه الضرورة ويحفظهم في سلام. فلا يكون السعي للسلام هو من أجل إشعال حرب، ولكن شَنَّ حرب هو من أجل إحراز سلام. لذلك، اعتَزُّوا بروح صانعي السلام، حتى في شنِّ الحروب، لَعَلَّكم، من خلال قهر أولئك الذين تهاجمونهم، أن تعيدوهم إلى فوائد السلام

وبهذا نلمس في منطق أوغسطينوس دهاء الروح المضادَّة لروح المسيح، وذلك من خلال منطق أخَّاذ يُقنِع العقول ويغسل الأدمغة البسيطة. وهذا المنطق ليس جديدًا على العالم، ونراه في كل مكان حولنا، وموجود لدى الكثير من الأديان والنظريات والأحزاب السياسية، ما عدا المسيح. وقد ناقض أوغسطينوس جميع آباء الكنيسة الأولى بهذا المنطق. وقد انزلق أوغسطينوس عائدًا إلى الوراء، إلى لاهوت العهد القديم، حين تضمَّن كلامه «قِرَبًا عَتِيقَةً» (الإنجيل، متى 9: 17)، ومُطبِّقًا القانون القديم. وهذا يشمل كل من يؤمن بهذا المنطق، حتى لو كان قد وُلِد بعد المسيح، وذلك لأنه تراه لا يزال في عقلية العهد القديم (فكر الحرب)، أيْ العهد ما قبل مجيء المسيح.

نرى هنا أن أوغسطينوس أباح استعمال العنف والقتل من أجل قَهْر الذين يحاربوننا، بينما أوصانا يسوع المسيح بأن لا نقاوم الأشرار:

«أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لاَ تُقاوِموا الشِّرِّيرَ، بَل مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن فاعرِضْ لهُ الآخَر.» (متى 5: 39)

وأخيرًا قال أوغسطينوس: «وهكذا يمكننا التحدُّث عن السلام مثلما تحدَّثنا عن الحياة الأبدية، بأنه غاية أعمالنا الصالحة...» ولكن النقطة الرئيسية في إنجيل السلام غابت عن أوغسطينوس. فالسلام هو ليس غاية فحسب بل وسيلة أيضًا. أما إذا استعملنا العنف والقتل وسيلةً، فلن نحقق السلام. فيجب أن يكون السلام وسيلة وغاية، كما تُعلمنا إياه موعظة يسوع المسيح على الجبل.

أمَّا آخر خطاب لأوغسطينوس في رسالة خطية إلى داريوس Darius، الإمبراطور الروماني الذي وقَّع اتفاق سلام مع الوَندال بدون سفك دماء أو معارك، فقد كان كما يلي: «إنَّ تجنُّب الحرب بواسطة الكلام، بدلاً من ذبح الناس بالسيف، له مجد أسمى، وكذا الحال بالنسبة إلى موضوع الحفاظ على السلام عن طريق السلام، وليس عن طريق الحرب.» نرى هنا أن أوغسطينوس أدرك أخيرًا أن السلام هو وسيلة وأيضًا غاية، ولكن بعد فوات الأوان. فقد كان طاعنًا في السِّنِّ، ويحتضر. والفضل لم يكن بفضل مثاله هو بل بفضل الدور البارع الذي لعبه الإمبراطور هنا.

ومن الجدير ذكره هنا أن أوغسطينوس لديه الكثير من الكتابات المسيحية الرائعة المفيدة للحياة الروحية، إلاَّ إنَّ تعاليمه الخاصة بتبرير المسيحيين للانخراط في الحروب وفي قضاياها، قد أثَّرت تأثيرًا سلبيًّا بالغًا على الحياة السياسية والدينية للناس وبتعدد ألوانها ولقرون متلاحقة. فقد أدرج سياسة الحرب العادلة الخاصة بالإمبراطورية الرومانية في اللاهوت المسيحي، وابتدع مفهومًا مسيحيًّا عن الحرب العادلة، رغم أنه وضع بعض التحديدات التي تجيز الحرب، إلاَّ أنه فتح الباب أمام بعض المسيحيين للاشتراك في بعض أنواع الحروب. وقد زاد نمو هذا الانفتاح بشكل أوسع أكثر فأكثر لاسيما عبر القرون الوسطى. وبدلاً من أن تبقى تلك النظرية مرهونة بشروط، أصبحت ترخيصًا لشنِّ الحروب.

توما الأكويني Thomas Aquinas

بحلول القرنين الميلاديين الثاني عشر والثالث عشر، أصبحت نظرية الحرب العادلة مُصادَقًا عليها شرعيًّا بفعل كتابات جراتيان Gratian وبفعل قوة الإقناع المنطقي في اللاهوت الجدلي لدى الراهب والفيلسوف الإيطالي توما الأكويني (1225–1274م) في القرن الميلادي الثالث عشر. وتُعتبر أقوال توما الأكويني اليوم موثوقة بين الروم الكاثوليك. وفي المنشور البابوي العام لسنة 1899م، والمسمى Aetorni Patrie، جعل البابا ليون الثالث عشر فلسفة توما الأكويني الفلسفة الرسمية للكنيسة الكاثوليكية (التي تتبناها في الحقيقة الكثير من الكنائس الأخرى في يومنا هذا).

ويمكن الاطلاع على أكثر البيانات اكتمالاً لتوما الأكويني عن موضوع الحرب في كتابه Summa Theologica، الجزء 2، السؤال 40، عن الحرب، بعنوان: First Article, Whether It Is Always Sinful to Wage War? (أيْ بمعنى: المادة الأولى، أتُعتبر عملية شنِّ الحروب أثيمة دائمًا؟)

فقد نسَّق توما الأكويني تعليم أوغسطينوس و «التوصية الإلهية» للبابا أوربانوس Urban بشأن الحرب المقدسة، وجعلها منهجًا للكنيسة، ولم يعُد هناك أيُّ عودة إلى السلام بحسب فكر الإنجيل. فليس من المستغرب أن يطفح عصرنا الحالي بالحروب.

فرنسيس الأسيزي Francis of Assisi

قبل الإصلاح الكنسي في القرن الميلادي السادس عشر، كان فرنسيس الأسيزي معروفًا بنمط حياته الشخصي المسالم اللاعنفي، وباختياره لطريق المحبة والتوبة. ويحظى فرنسيس الأسيزي بمكانة متميزة عند غير الكاثوليكيين، باعتباره القديس المفضل لديهم من بين القديسين الكاثوليك. فقد عاش قبل توما الأكويني بفترة وجيزة (1181–1226م). ولا تزال رسالته عن السلام تخاطب البشرية جمعاء، بفضل ممارسته الشخصية للنهج السلمي المسيحي والمحبة والغفران ورفضه للعنف.

وفي زمان فرنسيس، كانت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية هي الكنيسة المسيحية الوحيدة. فبعد أن قرر فرنسيس وأتباعه أن يحيوا حياة مسيحية مشتركة قائمة على الفقر والبساطة والتواضع، قصدوا روما وطلبوا موافقة البابا على نذورهم لهذا التكريس. وأظهر فرنسيس طاعته للبابا والكنيسة، ورأى أن هذه هي الطريقة التي يجب أن يعيشها المسيحي. ولكن فرنسيس آمن أيضًا بأن مجموعته من العلمانيين يجب أن تتبع تعاليم يسوع المسيح في الموعظة على الجبل، وتوجيهات يسوع للوعظ وفقًا للتعاليم الصحيحة. فقد علَّم فرنسيس أتباعه على عدم اللجوء إلى العنف والقتال وزهق الأرواح، وعدم أداء القسم، والقناعة برداء واحد، وبزوج واحد من الصنادل، وعدم حيازة ممتلكات أخرى، وعدم حمل أيِّ أسلحة، والانتقال من مدينة إلى مدينة للكرازة بالتوبة. وهذا ما فعلوه بالفعل. فقد أسس فرنسيس أولاً جماعة أخوية تعيش حياة مسيحية مشتركة للعزاب، وثانيًا جماعة أخوية مماثلة للعزباوات، وثالثًا جماعة أخوية مماثلة للمتزوجين.

وقد بدت حياة الجماعة الأولى قاسية إلى حدٍّ ما من قِبل الناس الناظرين إليها من خارج الجماعة. وعليه استدعى أسقف مدينة أسيزي فرنسيس، وقال له: «يبدو لي أن حياتكم ستكون صعبة جدًا ومُتقَشِّفة، إذا صممتم فعلاً على عدم حيازة أيِّ ممتلكات على الإطلاق.» ولكن فرنسيس كان مستعدًا لهذا السؤال، فأجابه: «سيدي الأسقف، إذا كانت لدينا ممتلكات، فسنحتاج إلى أسلحة لحمايتها. ومن هنا تنشأ النزاعات والمشاجرات، وتجري عرقلة محبة الله ومحبة أخينا الإنسان عرقلة كبيرة. ولهذا السبب، فإننا لا نرغب في امتلاك أيِّ ممتلكات دنيوية.» فلم يعد باستطاعة الأسقف أن يرد عليه. فكيف يرد عليه وقد رنَّ في باله كلام الرب يسوع المسيح، عندما قال: «لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ.» (متى 6: 19)

كنائس السلام Peace Churches

في زمن الإصلاح الكنسي، في القرن الميلادي السادس عشر، تشكَّلت جماعات كثيرة في أوروبا، بعد أن انسلخت عن الكنائس الرسمية التقليدية، الكاثوليكية والبروتستانتية، بسبب تفشي الفساد فيها وانتشار العولمة من جهة، وتيسُّر الإنجيل باللغات الأوروبية المحلية من جهة أخرى. فقد حافظت هذه الجماعات على رسالة السلام في موعظة يسوع المسيح على الجبل، واقتدت بمثال المسيحيين الأوائل في موضوع عدم الاشتراك بالحروب والقوات المسلحة. ونذكر من هذه الجماعات جماعة كويكرز Quakers، وحركة أنابابتسم ‏Anabaptism التي تشمل جماعة الهوتريين Hutterites وجماعة آمش Amish وجماعة المينونايت Mennonites وجماعة الإخوة Brethren. فقد علَّم كلٌّ من مؤسسي هذه الجماعات أمثال جورج فوكس George Fox ومينو سيمونس Menno Simons ويعقوب هوتر Jacob Hutter وألكسندر ماك Alexander Mack بأنه يجب على المسيحي أن يحذو حذو يسوع المسيح.

وفي عصرنا الحديث، توجد أيضًا الكثير من الجماعات الجديدة والحركات والمنظمات والأفراد الذين يرفضون استعمال القوة والقتل والسلاح وسفك الدماء، وموقفهم مضاد للحروب والاشتراك فيها، أمثال جماعة برودرهوف Bruderhof وجماعة باسز جمايندة Basis Gemeinde وجماعة بيت سهيل Betsehel ... إلخ. بالإضافة إلى وجود حركات مسالمة داخل الكنيسة الكاثوليكية نفسها، وفي غيرها من الكنائس التقليدية وغير التقليدية، وضمن الحركات الرهبانية، ولدى شخصيات مختلفة أمثال مارتن لوثر كنج Martin Luther King. بالإضافة إلى منظمات غير مسيحية، وأفراد من خلفيات مختلفة في كافة أرجاء العالم، الذين قد أنعم الله عليهم بضمير حيٍّ، أمثال غاندي الهندوسي، وعبد الغفار باشا خان Badsha Khan المسلم، وعز الدين أبو العيش، الطبيب العربي المسلم من غزة.

وللمزيد عن دور الكنيسة ودور الحكومة، يمكنكم قراءة هذه المقالة «الموقف تجاه الحكومة

خلاصة

وإذا أردنا حقًّا حلَّ مسألة العنف واستعمال القوة وإراقة الدماء، فلن نصل إليها إلاَّ بوضع يسوع المسيح وطريقه نصب أعيننا في يومنا هذا. فهو طريق السلام، والمحبة، والمغفرة، وعدم قطع الأمل من توبة الأشرار، والمصالحة، والحياة الأخوية المتقاسمة. إلاَّ أنه طريق يتطلب تضحيات بالغة. وكل ذلك يبدأ من داخل كل مِنَّا. فيجب علينا شَنَّ حرب على الشرِّ، والأنانية، والشهوات، والجشع، والحسد، والغيرة، ورح الانتقام، التي في داخل كل مِنَّا. فلذلك نحتاج إلى مجاهدة روحية يومية مدعومة بالصلاة الحارَّة إلى الرب يسوع المسيح ليعيننا في طريقه، ونحتاج إلى أن ننظر إلى أنفسنا قبل أن ننظر إلى الآخرين. فهل أنا مستعدٌ لأُحوِّل خدي الآخر للذي يلطمني؟ (متى 5: 39)

*******

(المصدر: كتاب «No King but Caesar» (أيْ بمعنى: لا ملك علينا إلا قيصر) للمؤلف وليام ر. دورلاند William R. Durland الذي كان محاميًا كاثوليكيًّا، ورئيس قسم الفلسفة والدين في جامعة بوردو Purdue في مدينة فورت وين Fort Wayne في ولاية إنديانا الأمريكية.)