ماذا أقول عن كتاب أحدث انفجارًا مُفرِحًا في قلبي؟ فقد وضع كتاب «ثورة الله» النقاط على الحروف، وتكشَّف أمامي بكل وضوح وجلاء صفاء الرسالة السماوية الطاهرة والبريئة. وماذا أقول عن كتاب أعطاني دفعة إلى الأمام للمضي في طريق المسيح بكامل الفرح والشجاعة ومن دون مساومة؟ فقد رأيتُ اشتياق سنيني بمِلء عينيَّ. لذلك أُسَمِّيه «الكتاب القنبلة.»

يشهد كتاب «ثورة الله» للإيمان المسيحي الأصيل، ويتطابق مع ضمير كل إنسان على الأرض مهما كان معتقده، لأنه وبكل بساطة يشهد لملكوت الله بعدله الذي ينشده جميع خلق الله.

الشيء الفريد في هذا الكتاب، أنه ليس مجرد كلام نابع من نظريات، بل شهادة حقيقية لحياة أخوية واقعية ومنظورة وملموسة، تعيشها مجتمعات كنيسة الحياة المشتركة «برودرهوف Bruderhof»، كغيرها من الجماعات المسيحية الأخرى المتناثرة في أرجاء العالم، حيث يؤجِّج الله في صدور أفرادها اشتياقًا إلى السير على خطى المسيحيين الأوائل ومعلمهم يسوع المسيح، أيْ إلى حياة مسيحية ذات تكريس كامل وبغيرة على طريق المسيح السامي.

أمَّا الثورات العربية التي حصلت، والتي تحصل للآن، فهي خير دليل على اشتياق الناس إلى السلام والعدل والحرية. فسبب هذه الثورات مفهوم، إذ إنَّ صدور الشعوب ضاقت بهموم العبودية والظلم والفقر، وتسعى إلى الحرية والانتخابات الحرة والمساواة ومكافحة الفساد الإداري وترسيخ سيادة القانون فوق الجميع والتوزيع العادل للثروات وفرص العمل والرفع من المستوى المعيشي والخدمات العامة بشتى أنواعها، وذلك لتحقيق الديموقراطية. وهذا ما تنشده في الحقيقة جميع الشعوب. وهناك شرارة إلهية تجيش في صدور هذه الشعوب من أجل هذه الأمور، ولكن هل باستطاعة جميع هذه الثورات تحقيق رسالة الإنجيل؟

مما لا شك فيه أن الديموقراطية أفضل بأضعاف المرات من الديكتاتورية، ولكن ماذا بعد تحقيق الديموقراطية؟ أتستطيع الديموقراطية خلق مجتمع أخوي مُتحابٍّ؟ أتستطيع الديموقراطية خلق مجتمع مُتَّحِد وغير منقسم على أساس الأغلبية والأقلية؟ وإذا نظرنا إلى الأغلبية بحدِّ ذاتها، فماذا نرى؟ أيعيش أفرادها في مقاسمة وخدمة متبادلة فيما بينهم، ويسهرون على مصلحة الآخرين بالدرجة التي يتمناها الإنسان؟

فما التوجُّه الصحيح إذن؟ آلتيار الديني أم العلماني؟ آلمرجعية الدينية مع الانخراط السياسي أم من دون الانخراط السياسي؟ ولو لم ننخرط سياسيًّا، فكيف سيتمكن الآخرون من الاستفادة من الإصلاحات التي نُقدِّمها إلى المجتمع؟ وكيف سنؤثر إيجابيًّا في الآخرين؟ وكيف نقدر على تغيير الآخرين من دون إكراه ومن دون قوة القانون؟ ولاسِيَّما تغييرهم خُلُقيًّا؟ وإذا رفضوا التغيير، فما ردُّنا عليهم؟ وكيف سنغيِّر المجتمع الذي حولنا؟ ونغيِّر بلدنا؟ وما موقفنا من الأقليات والأديان الأخرى؟ وما موقفنا من الذين يقترفون الشرور والآثام؟ وكيف يسعنا القيام بثورة بيضاء خالية من الدماء؟

أسئلة كثيرة تحتاج إلى أجوبة رصينة ذات أساس قوي نبني عليه حياتنا، وإلاَّ ترانا نعوم في الهواء، وتأخذنا الرياح حيثما تشاء، ونحصد ثمارًا مريرة.

وبسبب المعاناة التي مررتُ بها أنا شخصيًّا في بلداننا العربية، التي لا يزال الكثير من الناس يعانون منها كالحروب والاستعباد والذُل والمهانة والاضطهاد الديني والطبقية والعشائرية ومطامع الدول الكبرى وما تفرزه ويلات الحروب من موت ودمار وتعوُّق وتشرُّد وتَرَمُّل وتيتُّم وهروب وتشتُّت وتهجُّر ونزوح وجفاء وفقدان العلاقات الحميمة وحروب أهلية وترسيخ الطائفية وانحراف خُلُقي وفقدان القيم واستفحال التطرُّف والإرهاب، فقد كنتُ أنا شخصيًّا خلال كل ذلك أحمل في قرارة مخيلتي سؤالاً دفينًا لم أكُن أعلم به، لكنه كان منسوجًا في كياني، وأنا متأكد من أنه منسوج في كيان كل إنسان، ألا وهو: أين يمكنني أن أجد حياة السلام والإخاء؟ وكان ذلك خلال الحرب العراقية–الإيرانية حيث كنتُ فيها جنديًّا في الخطوط الأمامية.

وقد أُثيرت آنذاك تساؤلات كثيرة في بالي، وأنا جاثم تحت هول تساقط القنابل والقذائف، وتحيط بي أكوام القتلى والأطراف المتقطعة من كل جانب. وأذكر قسم من هذه التساؤلات: ما الدولة؟ وما الفرد؟ ولماذا الجيش، ولمصلحة مَنْ؟ ولماذا الحرب؟ ومَنْ هو العدو الحقيقي للإنسان؟ وما الحرية؟ وما العدالة؟ وما الأُخُوَّة؟ وكيف ينبغي أن تكون العلاقات بين الناس؟ وما الذي يحرِّك الحكومات؟ ولماذا يتراصف الزعماء الدينيون إلى جانب الحكومات وخاصة في أوقات الحروب؟ وكيف يسعني أن أكون مسيحيًّا وأخدم في الجيش في آن واحد؟ أيوجد حقًّا دول مسيحية بكل ما تعنيه الكلمة؟ أيعيش الناس في «الدول المسيحية» في محبة ومقاسمة وسهر على مصلحة الجار؟ أيختلف نظام الحياة في الدول الغربية عن الدول الشرقية؟ أيختلف نظام الحياة في أفريقيا؟ أم في أمريكا اللاتينية؟ وأيُّ نظام هو الأمثل؟ أهو النظام الرأسمالي؟ — أم الاشتراكي؟ — أم الشيوعي؟

عندما أيقظتني الحرب من غفلتي لأصحى على واقعي المرير والمميت، رأيتُ نجاسة نفسي، وكم هي ملطخة بالآثام والمعاصي، لأني كنتُ قد ابتعدتُ عن الله آنذاك. فما كان عليَّ إلاَّ أن أقبل النعمة المجانية للتوبة والغفران التي يُقدِّمها الرب يسوع المسيح، لأبدأ حياة جديدة في دربه، الذي بيَّن لي بوضوح مدى انتماء الحرب إلى الشيطان، وأيضًا وجوب محبة أولئك الإيرانيين المسلمين الذين تسميهم الحكومة «أعداءً» ووجوب عدم قتلهم، لأن يسوع المسيح قد صُلِب من أجلهم أيضًا، لمغفرة خطاياهم، وخطايا كُلٍّ مِنَّا. إذ تكمن المشاكل المُعرقِلة لعمل الله في أعماقنا، وهي خطايانا المختبئة ورذيلة الأنانية وقساوة قلوبنا. لذلك يجب أن يكون لدينا أملٌ في توبة أيِّ إنسان مهما كان شَّرَّه، مثلما أنا تبتُ وتغيَّرت حياتي. إلاَّ أن موقفي المسالم هذا لم أجد مَنْ يقاسمني به في المجتمع الذي كان حولي — لا داخل الكنيسة ولا خارجها. وظلَّ إيماني هذا مسألة شخصية بيني وبين نفسي.

أمَّا الحياة المسيحية المشتركة فلم نكُن نعرفها في أيِّ مكان إلاَّ في الإنجيل، لأن الكنيسة الرسولية الأولى في مدينة أورشليم عاشت في وحدة ومشاركة تامة في الإيمان والممتلكات، وفقًا لِمَا مدون في الإنجيل (أعمال 2: 43–47، 4: 32–37). وكُنَّا فخورين جدًا بها، لأنه لا توجد حياة تضاهيها أبدًا. فلذلك كانت تسكن في قلوبنا. ولكنني عندما صادفتُ أحد مجتمعات برودرهوف، لم أصدِّق عيني، لأنني رأيت الحياة المشتركة التي كُنَّا نحلم بها، ونفتخر بها دائمًا، فرأيتها أمام عينيَّ بكامل أبعادها.

فالناس في تلك الحياة المشتركة مجرد ناس عاديين جدًا، إلاَّ أن روح الله القدوس هو الذي يعمل في النفوس بشكل متميز، ويضمُّ بعضهم إلى بعض، وينقِّي أجواء مجتمعهم، وينعم عليهم بنظامه الإلهي للحياة المسيحية المليئة عدل وخدمة ومقاسمة والتزامات ووفاء زوجي مديد الحياة ونشاط وحيوية، لأن الله يحب جميع الناس، ويريد إظهار محبته وملكوته المُقدَّس لهم من خلال حياة مجتمع الكنيسة، الذي يعيش حياة مشتركة منظورة تمثِّل مبادئ الملكوت، ليزرع الأمل في نفوس كل مَنْ يراها. فيعود الفضل كله لله.

وعن كيفية انبثاق هذه الحياة المشتركة لجماعة برودرهوف، فقد كانت على يد مؤسسها ايبرهارد آرنولد Eberhard Arnold، مؤلف كتاب «ثورة الله.» فلم تُشْفِ غليله الديانة التقليدية والكنيسة المؤسساتية. فقد خاب أمله بالكنائس الرسمية في ألمانيا، مثل الكثير من الناس، ولاسِيَّما بعد الحرب العالمية الأولى. غير أن رسالة يسوع المسيح برؤيتها الواقعية غير المُزيَّفة، كانت تشدُّه في أعماق كيانه. وأحسَّ بإلحاح داخلي لتلبية دعوة يسوع المسيح إليه، لكي ينبذ حياته المترفة والغنية، ويترك وظيفته الممتازة بصفة رئيس تحرير إحدى دور النشر، ويترك منزلته الاجتماعية البرجوازية في مدينة برلين. فانتقل في عام 1920م إلى قرية صغيرة غير معروفة كثيرًا، ليباشر مع عدد من الأصدقاء، العيش كإخوة في مقاسمة يومية للحلو والمرِّ، والمضي في طريق يسوع المسيح، أيْ طريق الصليب، والبدء بحياة مليئة محبة وعدل، يختلف نظامها كُليًّا عن نظام حياتهم التقليدية السابقة، التي كانت متمركزة حول نزعة الاستقلالية الفردانية دون الخضوع إلى الجماعة‏. فأخذوا يضعون نصب أعينهم رؤيةً كبيرةً جدًا، أكبر من جماعتهم، وأكبر من الأرض كلها، بل وأكبر من الكون كله، ألا وهي: رؤية ملكوت الله الآتي.

إلاَّ أن هذه الحياة تتضمن توبة وتغيير يومي، لأن بذور الانقسامات والظلم والنجاسة الجنسية وشتى أنواع الفواحش تكمن في قلب كُلٍّ مِنَّا. إضافة إلى أن ولادة نظام إلهي جديد يجب أن تسبقها إماتة شخصية للفرد: مثل إماتة الأنانية وإماتة حُبِّ الذات وإماتة حُبِّ الرغبات الذاتية وإماتة التَّكبُّر والانتفاخ.

لم يكُن ايبرهارد أو رفاقه يعلمون أيَّ شيء عما كان المستقبل يخبِّئ لهم، سوى أنهم لَبَّوا الدعوة الإلَهيَّة، فإذا بكثير من الذين كانوا يتطلعون إلى الشيء ذاته في ألمانيا والبلدان المجاورة جاءوا بكامل اختيارهم لينضمُّوا إلى هذه الجماعة الصغيرة، ويُكرِّسوا بقية حياتهم لهذه الحياة المسيحية الأخوية المسالمة. وبطبيعة الحال، لم تكُن حياتهم مفروشة بالزهور، بل كانت مليئة بالأشواك، كالصراعات الروحية، والوقوع أحيانًا في فخ الاتِّكال على جهود بشرية دون الاستعانة بالربِّ، إضافة إلى هجمات إبليس التي لا تعد ولا تحصى، بل حتى الاضطهاد والتهجير من قِبَل الحكومة النازية.

إلاَّ أن الجماعة، ورغم كل هذه الصعوبات، نَجَتْ خلال كل تلك السنين بفضل الرب الإلَه وحده، وكانوا يخرجون منها في كل يوم بعبرة وحكمة إلَهِيَّة تصقلهم وتساعدهم على إرساء مركب حياتهم على صخرة الإيمان المسيحي وحده. وهناك المزيد عن سيرة المؤلف ايبرهارد في ملحقات هذا الكتاب.

أمَّا كتاب ايبرهارد «ثورة الله» فهو مُهِمٌّ جدًا، لأنه كالمحراث الذي يحرث قلوبنا حرثًا مؤلِمًا، ليجعلنا نرى تقصيرنا الشخصي، ونتواجه معه؛ ذلك التقصير الذي شارك في ذنوب الابتعاد عن طريق المسيح، وفي الفظاظة الموجودة في العالم. فلا يحابي ايبرهارد في كلامه أحدًا، ولا يساوم على وصايا الرب، بل يضع إصبعه على الجرح: إذ تكمن المشكلة في قلب كل إنسان. فماذا عن العنف في داخل قلبي؟ وماذا عن حُبِّ التَّملُّك الذي لديَّ؟ وماذا عن تلميع شخصيتي أمام الآخرين؟ وماذا عن أموري المفضَّلة التي قد تولَّعتُ بها، ولا أريد التَّخلِّي عنها، رغم أنها تصير حائلاً بيني وبين محبة الآخرين وخدمتهم وبين مشيئة الرب؟

إضافة إلى ذلك، نرى ايبرهارد آرنولد يخوض غمار المجابهات مع المنطق الشيطاني الماكر الذي يختبئ وراء الكثير من الأفكار والمواضيع التي يبدو ظاهرها مُقْنِعًا وصحيحًا ولا جدال فيه، إلاَّ أنه يفضحها بأسلوبه البسيط، ويُبيِّن هشاشتها وانتمائها الشيطاني. وهو يدعونا دائمًا إلى تفحُّص أعماق قلوبنا، لأنه هناك تكمن الحقيقة، وهناك يتكلم الله إلينا.

وينبغي أن نبحث عن الحقيقة بجهود حثيثة، ولا نقتنع بما تمليه علينا تقاليدنا البالية، ولا بما تمليه علينا مواقفنا الفاترة، والمنطق السطحي الركيك الذي نحكم به بكل سهولة على أمور الحياة حكمًا باطلاً. غير أن الإقدام على البحث عن الحقيقة، وإصلاح حياتنا، يتطلب شجاعة وتصميمًا، ورفض الانصياع إلى قيود مجتمعاتنا المُجحِفة، الأمر الذي قد ينجم عنه عواقب وخيمة.

ولا يريد هذا الكتاب تسليط الأضواء على كنيسة الحياة المشتركة «برودرهوف» وإنما التركيز على ملكوت الله وحده، الذي يستقي الناس منه الإلهام والقوة، والتركيز على المسيح، الذي بَشَّر بالملكوت، وقدَّم عمله الخلاصي على الصليب، الذي ينعم علينا بحياة جديدة تختلف تمامًا عن الحياة التي تفرزها الأرض، والتركيز أيضًا على دور الروح القدس الحيِّ، الذي يعمل ليل نهار في النفوس.

أمَّا الحياة المشتركة التي أوصى بها المسيح شعبه فما هي سوى ثمرة الإيمان بيسوع المسيح وبملكوته الذي نادى به، وهي من عمل الرب وحده، وهي شهادة حيَّة لملكوت الله ولمبادئه على هذه الأرض، وهي من أعظم معجزات المسيح على هذه الأرض المُتجزِّئة. وتؤكد هذه الحياة المشتركة على عنصر الجماعة، لأن المسيح لم يدعُ إلى الحياة الفردية المُفككة. وهو ليس قادرًا على شفاء حياة الفرد فحسب بل شفاء حياة الجماعة أيضًا.

ثم إنَّ الحياة المسيحية المشتركة ليست أمرًا جديدًا في العالم، فقد بدأت عند جماعة التلاميذ مع يسوع واستمرت في عهد الكنيسة الرسولية الأولى التي ضمَّت عائلات وعزاب على حدٍّ سواء. وكانت هناك على مرِّ التاريخ جماعات عديدة تتلقَّى الدعوة نفسها، فضلاً عن الحركات الرهبانية بشتى أنواعها التي اقتصرت على العزاب.

لذلك جاء كتاب «ثورة الله» تعبيرًا عن الفرحة العارمة بملكوت الله الذي يمكن تجسيده في الحقيقة على أرض الواقع، رغم المصاعب، بشرط أن تكون قلوبنا تلتهب اشتياقًا إلى عدل الله وبِرِّه، وإلى الوحدة الأخوية الحقيقية، وبشرط أن نكون متواضعين أمام جلاله، ونتوقع تدخُّله القدير. فما أسمى ملكوت الله!

 

هذه المقالة هي مقدمة كتاب: «ثورة الله»