يُعتبر العشاء الرباني أفضل تعبير لنا يعكس القضية المركزية التي نعيشها معا في يسوع المسيح، لأننا لا نريد أن ننسى يسوع. فكم من السهل علينا أن ننساه! فنحن بحاجة إلى تذكير قوي جدا به. ولهذا نحتاج إلى الاحتفال بالعشاء الرباني؛ فهو مأدبة لإحياء ذكراه. (1 كورونثوس 11: 23-25)

فماذا تحاول مأدبة إحياء الذكرى أن تقول لنا؟ إنها تحاول لفت انتباهنا لئلا ننسى يسوع، وأيضا لجعل موته معلن. ففي العشاء الرباني ينفصل الجسد المتّحد للكنيسة المقدسة عن أية جماعات أخرى، أو منظمات أخرى، أو أية جمعية تعاونية ذات علاقات سطحية. هذا ونسلم في العشاء الرباني بأن جسد الكنيسة المقدسة هو حيّ، وبأنه ينتسب إلى يسوع المسيح.


لقد تمّ تدوين تعليم الرسل الاثني عشر في كتاب الذي صار يُعرف أيضا باسم "ديداخي Didache" في القرن الميلادي الثاني في محاولة للاحتفاظ بالذكريات الأولية من زمن الرسل. ويقدم لنا هذا الكتاب الصورة التالية كجزء من صلاة الشكر عند الاحتفال بالعشاء الرباني، إذ يقول: بذور الحبوب متناثرة على حقول عديدة، ثم يأتي وقت الحصاد. ولا تأتي بالضرورة حبوب من حقل واحد لتكوّن معا رغيفا واحدا. فالحبوب التي من حقول متعددة والتي تقع في أماكن مختلفة تُخْبَزُ في الغالب سوية إلى رغيف واحد. وهكذا الحال معنا، فنحن ناس كثيرون؛ وقد جئنا لنعيش كأخوة معا من بلدان متعددة، ومن طبقات اجتماعية متعددة، ومن مجموعة متنوعة من الأيديولوجيات والتقاليد. (سفر الرؤيا 5: 9-10) لقد جئنا من حقول متعددة ومختلفة، ولكننا نُخْبَزُ معا إلى رغيف واحد.

وقبل أن يُخْبَز الخبز، يجب طحن جميع الحبوب التي تمّ جمعها سوية من حقول متباينة تقع في أماكن مختلفة. فإذا لم يتمّ طحن الحبوب، فلن يكون هناك أي خُبْزٍ؛ ويجب طحن كل حبة. وإذا ظلت هناك حبة غير مطحونة، فسيكون هناك حبة كاملة في الرغيف، وعندما يجري تقديم الرغيف، سيأخذ أحدهم سكينا وسيزيل تلك الحبة من هناك لأنها في غير محلها في الخبز. فقد احتفظت بطبيعتها، وبوجودها الفردي، وبأهميتها هي.

بعد أن تُطحن الحبوب يوضع الطحين المعجون في فرن ساخن، ولا يصير العجين خبزا إلا عند هذه المرحلة. ثم يوضع بعدئذ على مائدة الطعام. وإذا كانت مائدة الطعام فعلا مشتركة، فسيكون الخبز للجميع ليتقاسموا به. فلا يمكننا وقتئذ أن نصلي ونقول: "أعطني خبزي كفافي اليوم". بل بالأحرى سنصلي معا هكذا: "أعطنا خبزنا كفافنا اليوم". أي لجميعنا، في كل يوم! (متى 6: 11)

ثم يُقطّع أو يُكسر الخبز وتجري مقاسمته. ونرى هنا أيضا، فقد تمّ التشديد مرة أخرى على الحياة المشتركة، وهذه المرة في مقاسمة الخبز. ونحن نعلم أن يسوع القائم من بين الأموات قد تمّ التعرّف عليه من خلال الطريقة التي كسر فيها الخبز ومن ثم توزيعه إياه على مائدة الطعام المشتركة. (لوقا 24: 30-31)

وقد قيل الشيء نفسه عن الخمر. فيجب عصر العنب في المعصرة لأن الخمر سيفسد إذا حاولت حبة عنب واحدة التمسك بوجودها. فيجب عمل كمية واحدة من الخمر من جميع حبات العنب. لذلك يجب على كل حبة عنب أن تضحي بنفسها تضحية كاملة من اجل وحدة الخمر. وتماما مثلما تتقاسم الجماعة كلها رغيفا واحدا، فهكذا أيضا تتقاسم كأسا واحدة...

إنَّ العشاء الرباني هو تذكير لنا بالتضحية الكاملة التي قامت بها تلك الحبة الواحدة عند قبولها لأن تُطحن، وتلك حبة العنب لأن تُعصر - وبذاك الذي له الفضل في التأثير ليجعل الأمر ممكنا. إنه إعلان موت يسوع المسيح إلى أن يعود، وهو ترقب ذاك المستقبل الختامي عندما سيأكل يسوع الخبز ويشرب الخمر ثانية معنا في ملكوته. (متى 26: 29)


الرمزية في العشاء الرباني

تُعتبر الجلسات الأخوية الحميمة حول المدفأة في البيوت والأكل والشرب المشترك هي من سمات الجنس البشري؛ والتي تؤدي بدورها إلى العمل المشترك وإلى مجالس السمر الأخوية حول المدفأة في الشتاء، على سبيل المثال، وإلى العِشرة الطيبة.

ففي العشاء الأخير الذي أقامه يسوع مع تلاميذه اكتسبت هذه الأشياء العادية والبسيطة معنى عميقا يؤشر إلى ذروة الحقيقة. وقد تمّ الجمع بين الخُبز والخمر في هذه المأدبة، فالأول هو أساسي ومغذي، والثاني نبيل وناري يُؤَجِّجُ الأعماق. خبزٌ وخمرٌ، وليس خبزا وماء، كما يفضّله المتزهِّدون. فلم يكن يسوع متزهدا، حتى فيما يتعلق بالمشروبات القوية. فيريدنا يسوع حتى في أكلنا وشربنا أن نجمع بين البساطة والفرح الحقيقي بعطايا الله لنا. وبحسب التقليد القديم للناس العاديين، فإنّ الخبز يجري مناولته من شخص لآخر، فيقتطع أو يكسر كل شخص قطعة منه ويناوله للشخص الذي يليه. ويجري تمرير جَرَّة الخمر، فيشرب كل شخص منها ومن ثم يناولها للآخر. وبالكاد يمكن أن يكون هناك تعبير أقوى يعبّر عن الوحدة والمقاسمة والمجتمع المسيحي من هذا التقليد المكرّم على مدى سنين طويلة، أي تمرير رغيف واحد وجرّة واحدة من الخمر من شخص لآخر.

دعونا نلقي نظرة على هذه الرموز. فالأحادية التي في الرغيف والخمر، وأيضا اللون الأحمر للخمر الذي يعيد للأذهان دم-الحياة لجسم الإنسان، هما رمزان قويان للمأدبة المسيحية المشتركة. فالرغيف متقطّعٌ (أو مكسورٌ)؛ والخمر مُراق. والوحدة هي واقع منظور، وعملية الاتحاد قد كملت: "هذا هو جسدي، وهذا هو دمي". (1 كورونثوس 11: 24-26)

وللتأكد من ذلك، فإنّها رسالة بسيطة جدا وأصيلة بحيث لا يستسيغها المفكرون المنتفخون. فإنَّ هذه الرسالة تبيّن إرادة الله، والتي تعني لنا الوحدة المسيحية، وأيضا الانكسار الذاتي من أجل هذه الوحدة. وتماما مثلما سمح يسوع لجسده أن يُبذل ولدمه أن يُراق، فيريد منك الكفّ عن البقاء مثل حبة قمح منفصلة، أو حبة عنب منفصلة. فهو يريد منك أن تلقي بنفسك إلى وحدة الجسد (أي وحدة الكنيسة المقدسة)، ووحدة الخمر المتدفق؛ ويريد منك أن تمضي من خلال موت المسيح. عندئذ سيخلق الله الوحدة، وسيتدفق الروح الجديد - الروح القدس - وسيهب حياة للجسد (أيْ الجماعة)، جاعلا إياه قلب واحد وفكر واحد. فهذا هو السر العجيب للمسيح، وللكنيسة المقدسة، إنه السر العجيب للوحدة الكاملة. فهذا هو العشاء الرباني.


عندما أسس يسوع الاحتفال بمأدبة إحياء الذكرى المقدسة، كان يتحدث فيها عن تسليم حياته كلها والتضحية بدمه وجسده. فهناك علاقة وثيقة بين أحداث ذلك العشاء الأخير - فتناول الحَمَل المقدم كقربان لله وأكل الخبز وشرب الخمر من جهة - وإعلان يسوع للغُفران، والوحدة والملكوت الآتي من جهة أخرى. فترتبط هذه الأمور بعضها ببعض.

واستخدم يسوع تضحية الحَمَل ليشرح لأولئك المجتمعين معه حول المائدة معنى التضحية من أجل ملكوت الله. وبذلك أعلن عن موته كضحية قربانية. (1 كورونثوس 5: 7؛ وأعمال 8: 32-33) لذلك فنحن نعتبر كل شيء نأكله هو شكرٌ وامتنان لله بما قدمه من تضحية، مثلما فعل المسيحيون الأوائل. فكل وجبة طعام نتناولها معا هي مأدبة محبة مشتركة، وتقديم شكر لله، ومأدبة إحياء الذكرى. وينبغي لنا تقديم جزيل الشكر لله في كل مرة نجتمع فيها لتناول وجبة طعام. وليس شكرنا الذي نقدمه هو بسبب إرضاء شهيتنا أو مصلحتنا الخاصة. وإنما من أجل ضحية النباتات والحيوانات التي يقدمها لنا الله لنعيش من اجل الوحدة المسيحية، التي هي مشيئة الله؛ ولتتقوى حياتنا ونتمكن من الاستمرار في تقديم الشهادة لملكوت الله من خلال العيش في الكنيسة المقدسة المتقاسمة.


هذا المقال مقتطف من كتاب "ثورة الله"