إنَّ حياة الإيمان تعني التجمّع والاتحاد، كما قال يسوع المسيح:

وأنا متى اَرتَفَعتُ مِنْ هذِهِ الأرضِ، جَذَبتُ إليَّ النّـاسَ أجمعينَ. (يوحنا 12: 32)

والحياة التي يهبها الله تريد أن تُجَمِّعنا وتجعل مِنّا كائنا حيا واحدا؛ فالله يوحَّدنا في جسم حيّ واحد يحيا بالروح القدس.

فنَحنُ كُلُّنا، أيَهودًا كُنَّا أم غَيرَ يَهودٍ، عبيدًا أم أحرارًا، تَعَمَّدنا بِرُوحِ واحدٍ لِنكونَ جَسَدًا واحدًا، وارتَوَيْنا مِنْ رُوحٍ واحدٍ. وما الجَسَدُ عُضوًا واحدًا، بَلْ أعضاءٌ كثيرةٌ. (1 كورنثوس 12: 13-14)

لذلك فإنَّ القوة الدافعة لحياتنا اليومية ولحياتنا العملية هي كلٌ من اتحاد بعضنا مع بعض في الروح القدس وأيضا رباط السلام الذي يجمعنا، وهنا تصير وحدتنا واقعا ملموسا.


نؤمن بأن الروح القدس يُظهِر وجوده في مجتمع الكنيسة الحيّ الذي يعيش حياة مشتركة. فيختلف هنا إيماننا المسيحي عن ذلك الذي يتمحور حول الفرد فقط. صحيح أنّ قلب الفرد يحتاج إلى زيارة الروح القدس إليه، ولكن مع ذلك، فإنّ عمل الروح القدس الحقيقي يبدأ في الكنيسة المقدسة المتشاركة. فعندما تجري رعاية ما يعيشه قلب الفرد من قِبَلِ المجتمع المؤمن بأكمله، فعندئذ، وفي ذاك الوقت بالذات، سيصبح ملكوت الله منظورا.


إذا سأَلَنا أي شخص فيما إذا كانت جماعتنا هي الكنيسة المقدسة، نحن الذين نتألف من عدد قليل من الأشخاص الضعفاء والمحتاجين الذين يعشون حياة مسيحية مشتركة، وَجَبَ علينا أن نجيب ونقول كلا، نحن لسنا بالكنيسة المقدسة. فنحن نتلقى محبة الله مثل كل البشر. ونحن مثل بقية الناس – إن لم نكن أسوأ – لا نستحق أن نقوم بعمل الروح القدس بل نحن غير صالحين له، ولا حتى لبناء الكنيسة المقدسة، ولا لتبشير العالم بأسره.

لكن إذا وضع الشخص سؤاله بهذه الطريقة: "هل توافيكم الكنيسة المقدسة؟ وهل تنزل كنيسة الله إلى مكانكم، وإلى الناس فيه؟ وهل توجد الكنيسة المقدسة في الروح القدس ذلك الوحيد الذي له القدرة على أن ينزل بالكنيسة المقدسة إلى الأرض؟" وَجَبَ علينا عندئذ أن نجيب ونقول نعم، هذا صحيح. لأن الكنيسة المقدسة تنزل إلى أي مكان يتجمّع فيه المؤمنون الذين ليس لديهم أية إرادة أخرى، ولا أي هدف آخر، سوى مجيء ملكوت الله وسوى ظهور كنيسة يسوع المسيح في الوحدة المسيحية التي ينعم بها الروح القدس. فتوجد الكنيسة المقدسة أينما وُجِدَ الروح القدس.

ومَنْ عَمِلَ بِوَصايا اللهِ ثبَتَ في اللهِ وثبَتَ اللهُ فيهِ. وإنَّما نَعرِفُ أنَّ اللهَ ثابِتٌ فينا مِنَ الرُّوحِ الّذي وَهبَهُ لنا. (1 يوحنا 3: 24)


إنَّ الكنيسة المقدسة عبارة عن بناء حيّ مكوّن من حجارة بناء حيّة. والحجارة بعيدة كل البعد عن الكمال؛ فهي بحاجة إلى تقطيع ونحت وتغيير شكلها إذا أرادت أن تتلاءم مع البناية. ولكن البناية بحد ذاتها تتصف بالكمال التام. والسرّ العجيب في الموضوع هو أنّ حياة هذه البناية لا تكمن في أجزاءها المكونة لها بل بالأحرى في الروح القدس الحيّ الذي يُجَمِّعها. ولا تنتج وحدتها بفضل عملية تجميع الأجزاء التي بُنيت بها البناية أو بفضل أتفاق الآراء. لأن أحجار البناء بطبيعتها تُعتبر ميّتة روحيا. إلا أنّ الروح القدس هو الذي يجعلها تصحو وتستيقظ للحياة وذلك بتجميعها معا في وحدة جديدة.

وأنتُم أيضًا حِجارَةٌ حَيَّةٌ في بِناءِ مَسكِنٍ رُوحِيٍّ، فكونوا كَهَنوتًا وقَدِّموا ذَبائِحَ روحِيَّةً يَقبَلُها اللهُ بِيَسوعَ المَسيحِ. ( 1 بطرس 2: 5)


كم أتمنى لو استطعنا أن نحثّ رؤساء الحكومات في يومنا الحالي مثلما فعل جورج فوكس George Fox (مؤسس حركة كويكرز المسيحية) عندما حثّ أوليفر كرومويلOliver Cromwell (زعيم انكليزي) على رفض تاج العرش الرئاسي للدولة وطرحه أرضا أمام عرش يسوع المسيح! ولكن يجب علينا أولا أن نطرح أرضا جميع تيجاننا الصغيرة عند عرش المسيح، ومن ضمنها تَـعَـنُّـتـنـا المُتلألِئ وجميع رغباتنا الشخصية وتكبّرنا. هذا وأنّ مكان سكن الكنيسة المقدسة المتشاركة، أي بمعنى المكان الذي يتسم بالوحدة، هو المكان الذي سهّل علينا جميع هذه الأمور. فيستحيل على طبيعتنا الأنانية أن تنتصر عندما تُجَابَهُ مع الكنيسة المقدسة. ولا يمكن أبدا للرغبة الأنانية أن تفرض نفسها حيث يوجد أتفاق بالإجماع. لأننا نتحرّر من جميع الأوهام والضلال التي نميل إليها وذلك بفضل وحدة الكنيسة المقدسة. ويخرس في كنيسة يسوع المسيح صوت كل انتفاخ وأبّهة كما يُستأصل كل اعتداد شخصي بالنفس.

فأقولُ لكُم وأشهَدُ في الرَّبِّ أنْ لا تَسيروا بَعدَ الآنَ سِيرَةَ الوَثَنيِّينَ الّذينَ يُفكِّرونَ باطِلاً، وهُمْ في ظَلامِ بَصائِرِهِم وجَهلِهِم وقَساوَةِ قُلوبِهِم غُرَباءُ عَنْ حَياةِ اللهِ. فلمَّا فقَدوا كُلَّ حِسٍّ استَسلَموا إلى الفُجورِ، فانغَمَسوا في كُلِّ فِسقٍ ولا يَشبَعونَ. أمَّا أنتُم فَما هكذا تَعَلَّمتُم ما هوَ المَسيحُ، إذا كُنتُم سَمِعتُم بِه وتَلقَّيتُم تَعليمًا مُطابِقًا لِلحقيقَةِ الّتي في يَسوعَ. فاترُكوا سِيرَتكُمُ الأُولى بِتَركِ الإنسانِ القَديمِ الّذي أفسَدَتْهُ الشَّهواتُ الخادِعَةُ، وتَجدَّدوا رُوحًا وعَقلاً، والبَسوا الإنسانَ الجَديدَ الّذي خلَقَهُ الله على صُورَتِهِ في البرِّ وقَداسَةِ الحَقِّ. (أفسس 4: 17-24)


أنّ التغيّرات الإيجابية التي تحصل في خُلُق الإنسان على مرّ الحياة هي مسألة بشرية وطبيعية بالتأكيد؛ لكنها أكثر من ذلك: فهي تتماشى مع مشيئة الله. ولأننا لا نرقى أبدا إلى كمال الله على جميع الأصعدة فيجب علينا أن نتغيّر ونتوب باستمرار. هذا وأن نوع الاتجاه الذي سنتغيّر باتجاهه سيحسم الأمور. وتخبرنا الأسفار المقدسة عن أي اتجاه ينبغي لنا الذهاب فيه: إنه التقرّب إلى صورة الله وتعميق فهمنا لها من خلال المسيح ليتيسر له أن يعمل فينا ويغيّرنا.

ونحنُ جميعًا نَعكِسُ صُورَةَ مَجدِ الرَّبِّ بِوُجوهٍ مكشوفَةٍ، فنَتَحوَّلُ إلى تِلكَ الصّورَةِ ذاتِها، وهيَ تَزدادُ مَجدًا على مَجدٍ، بِفَضلِ الرَّبِّ الّذي هوَ الرُّوحُ. (2 كورنثوس 3: 18)

لكن الفرد الواحد لا يمكنه أن يعكس صورة الله لوحده؛ لأن صورة الله تعكسها وحدة عضوية تشبه الجسم وتتكون من العديد من الأفراد الذي قد كرّس بعضهم حياته لبعض ويساعد بعضهم بعضا. إنّ تلك الوحدة العضوية هي الكنيسة المقدسة التي يحركها الروح القدس. وجسد المسيح العجيب (أي بمعنى جماعة المؤمنين) هو صورة الله لعصرنا.


لقد أَذِنَ لنا الله بأن نحيا ضمن الكنيسة المقدسة على هذه الأرض بالرغم من ضعفنا وطبيعتنا الخاطئة وضيق أفقنا؛ حيث يسعنا فيها أن نعكس طبيعة الله الآب بالكلام والحياة والعمل. إنَّ الجماعة الجديدة للمسيح هي ليست الفرد المؤمن، بل الكنيسة المقدسة، التي قد منحها الله نظاما مرتّبا من خلال أدواته (أي الأنبياء والرسل ورجال الله). فهي الهيئة الجديدة للكلمة الإلهية وتجسّد المسيح في الناس. هنا، ستعمل الصلاة - "اللَّهُمَّ" الملك، والآمر، والمعين، والمُحِب - على إخضاع المعارضة المتمردة للـ "أنا" البشرية لله الجبار، القادر على توحيد الجميع، وضمن نطاق ألـ "نحن" للكنيسة، وستجعله يخضع بإيمان وتوكل كاملين. وسيبقى الله دائما مناقضا لنا جدا ومختلفا عنّا، وسيبقى وحده الصالح والعظيم. فهو يتكلم لنا من خلال روحه، أي الروح القدس، ويناشد كنيسته المقدسة دائما. ويهبها نعمته وحمايته ويسلّحها ويفوِّضها.


أراد يسوع من أصدقائه المقربين الذين ندعوهم بالتلاميذ أن يكونوا دائما على مقربة منه.

وصَعِدَ إلى الجبَلِ ودَعا الّذينَ أرادَهُم فحَضَروا إلَيهِ. فأقامَ مِنهُم اَثنَي عشَرَ سَمّاهُم رُسُلاً يُرافِقونَهُ فيُرْسِلُهُم مُبَشِّرينَ، (مرقس 3: 13-14)

ودفع لاحقا روحه القدوس المسيحيين الأوائل إلى البقاء بعضهم قريب من بعض لكي يتمكنوا أن يحيوا ذات الحياة التي عاشها يسوع والقيام بما هو قام به.

وكانوا يُداوِمونَ على الاستِماعِ إلى تَعليمِ الرُّسُلِ وعلى الحياةِ المُشتَركَةِ وكَسْرِ الخُبزِ والصَّلاةِ. وتَمَّت عجائِبُ وآياتٌ كثيرةٌ على أيدي الرُّسُلِ، فاَستَولى الخَوفُ على جميعِ النُّفوسِ. وكانَ المُؤمِنون كُلُّهُم مُتَّحِدينَ، يَجعَلونَ كُلَّ ما عِندَهُم مُشتَركًا بَينَهُم، يَبيعونَ أملاكَهُم وخَيراتِهِم ويَتقاسَمونَ ثَمَنها على قَدرِ حاجَةِ كُلِّ واحدٍ مِنهُم. وكانوا يَلتَقونَ كُلَّ يومٍ في الهَيكَلِ بِقَلبٍ واحدٍ، ويكسِرونَ الخُبزَ في البُيوتِ، ويَتَناولونَ الطَّعامَ بِفرَحِ وبَساطةِ قَلبٍ، ويُسبِّحونَ اللهِ، وينالونَ رِضى النّاسِ كُلِّهِم. وكانَ الرَّبُّ كُلَ يومِ يَزيدُ عَددَ الّذينَ أنعمَ علَيهِم بالخلاصِ. (أعمال 2: 42-47)

ولما كانوا مدفوعين بإلحاح روحي عميق، كانوا يجدون جوابا وحلّا لكل تساؤل أو معضلة تواجههم في حياتهم المشتركة بحيث يكون شكل الإجراء المنظور الذي يتخذونه متماشيا تماما مع الوحدة التامة والمحبة التامة.


كان سرّ المجتمعات المسيحية الأولية هو الوجود الجبار للمسيح في كنيسته المقدسة.

وهِيَ السِّرُّ الّذي كَتَمَهُ اللهُ طَوالَ الدُّهورِ والأجيالِ وكشَفَهُ الآنَ لِقِدِّيسيهِ الّذينَ أرادَ اللهُ لهُم أنْ يَعرِفوا كَمْ كانَ هذا السِّرُّ غَنِيّاً ومَجيدًا عِندَ غَيرِ اليَهودِ، أي أنَّ المَسيحَ فيكُم وهوَ رَجاءُ المَجدِ. (كولوسي 1: 26-27)

والشيء العجيب بشأن هذا السرّ هو أنّ المسيح لم يظهر كرؤية لهم بل كان موجودا بنفسه بينهم لأن الروح القدس كان قد حلّ عليهم.

ففي اللحظة التي يعترف فيها أفراد الكنيسة المقدسة بأن محبة الله قد ملأت قلوبهم بواسطة الروح القدس، فإنهم بالحقيقة والواقع يعترفون بأنّ المسيح حاضرٌ في وسطهم، فهو موجود هناك معهم! إنه ينتصر على جميع الأرواح النجسة ويطردها منهم لينالوا سلاما ملموسا، كما ينتصر على جميع العلاقات المبنية على المشاعر بينهم لتحلّ محلها علاقات صحيحة أساسها المسيح والمحبة المسيحية ومخافة الله، وينتصر أيضا على سرعة الزعل والأنانية وعلى جميع الخطايا. فالملك، ذاك المصلوب والقائم من بين الأموات، حاضر في كنيسته المقدسة من خلال روحه الجبارة والمقتدرة، أي الروح القدس.


أنَّ الرباط الذي يجعل أعضاء أخويتنا بعضهم يتماسك مع بعض هو ليس رباطا بشريا قائما على عهود متبادلة بيننا. وإنما بالأحرى، هو علامة خارجية لابد منها تظهر للعيان كثمرة لإيماننا بما يريده الله وأيضا بفضل إيماننا بقدرة الروح القدس. لأن ما يريده الله هو أن نصبح متحدين اتحادا كاملا، ويعود الفضل بذلك للروح القدس الذي يعمل بصورة متواصلة على جعل هذه الوحدة وهذا التماسك بيننا حقيقة واقعية.


نحن لسنا بتشكيلة من الناس الذين لديهم نيّات حسنة بشأن العيش في مجتمع مسيحي متشارك والذين يعتقدون بأنه لو كان لجميع هذه النيّات الحسنة أن تنقاد معا بالاتجاه الصحيح لكانت النتيجة شيئا مرادفا للوحدة في الروح القدس. كلا، نحن لا نؤمن بهذا. فإننا نعلم بأنه على الرغم من عدم كفاءتنا للحياة المشتركة، وعلى الرغم من ضعف شخصياتنا وقلّة مواهبنا، وعلى الرغم من حالنا كما هو عليه، فإنَّ روح يسوع المسيح، الذي هو روح الوحدة، يدعونا إلى هذا الطريق ويأمرنا أيضا بتجميع ناس آخرين.


لا يوجد شخص معين يصدر الأوامر إلى الآخرين؛ لأن هذا من شأنه أن يُحدِث انقساما بين صاحب العمل والمستخدَم. فليس عندنا مثل هذه الأمور. كما لا يوجد عندنا جماعة من المثقفين أو الأكاديميين (أي خريجي الجامعات) يتأمّرون على الذين يقومون بالأعمال البدنية. لأن ذلك سيقسّمنا إلى مجاميع بعضها أرفع مقاما من بعض. فيجري اقتلاع كل بقايا تقسيمات طبقية أو اجتماعية أو عنصرية أو تلك التي تخلق مقامات بصورة جذريّة. فقد وُلِدَ نظام عملنا الذي نحن نحتاج إليه لتسيير أمورنا من أتفاق الإجماع في مجتمع الكنيسة المتشارك. فالسلطة الوحيدة الأرفع مقاما لدينا هي أتفاق الإجماع الآنف الذكر، أي هذا الوفاق التام لجميع الأعضاء المؤمنين والمُحِبين...

لقد تمّ إسناد بعض الخدمات إلى بعض الأعضاء من إخوة أو أخوات، مثل خادم الكلمة، وأمين الصندوق، ومدير مصلحة العمل، وموزع العمل، ومسئولة المنازل، ومدير المدرسة، وغيرها. ولكن هؤلاء الإخوة والأخوات لا يمكنهم القيام بهذه الخدمات إلا في حالة واحدة فقط وهي عندما يوافق على ذلك المجتمع المسيحي بأسره. ولا يسبب هذا التنظيم أية مشكلة لأي فرد في المجتمع المسيحي. فعند الانضمام إلى الحياة المسيحية المشتركة يجلب كل شخص كل كيانه وكل ما يملك إلى الأخوية. فلا يحتفظ بأي شيء، ولا بأية ساعة عمل واحدة، ولا بأي حساب توفير، مهما كان صغيرا، ولا حتى بأصغر صندوق للمواد النفيسة. فهو لا يملك شيئا على الإطلاق.

لا تَخَفْ، أيُّها القَطيعُ الصَّغيرُ! فأبوكُمُ السَّماويُّ شاءَ أنْ يُنعِمَ علَيكُم بالمَلكوتِ. بِـيعوا ما تَملِكونَ وتَصَدَّقوا بِثَمَنِهِ على الفُقَراءِ، واَقتَنُوا أموالاً لا تَبلى، وكَنزًا في السَّماواتِ لا يَنفَدُ، حَيثُ لا لِصٌّ يَدنو، ولا سُوسٌ يُفسِدُ. فحَيثُ يكونُ كنزُكُم، يكونُ قلبُكُم. (لوقا 12: 32-34)

والذي في حوزته هو ليس سوى ذلك الشيء الذي أُعطي له ليستعمله ما دام يحتاج إليه للقيام بعمله. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أننا سنحصل على حالة من التماثلية؛ فيجب أَلَّا نتصور أنّ الجماعات التي تعيش حياة مشتركة يمكن تأسيسها بمجرد نوتة موسيقية واحدة؛ أنها تؤدي إلى تآلف موسيقي ثريّ ولحن جميل قوامه العديد من النوتات الموسيقية المختلفة.

ويوفر المجتمع المسيحي المستلزمات التي يحتاجها كل فرد فيه للقيام بعمل مثمر في الزراعة والفلاحة، وفي مجال الحرف والفن، وفي النشر والطباعة، وفي التعليم ونشاطات التسلية والرياضة، وفي مجاميع رياض الأطفال ودور الحضانة، وفي المطبخ والغسيل، وفي شتى أنواع التنظيف المنزلي، وهلم جرا. فيقوم كل فرد بأداء عمله من أجل المجتمع المسيحي كله.


يا لها من معجزة حقيقية عندما استطعنا أن نعيش حياة مسيحية مشتركة طوال هذه السنوات الاثني عشر ضمن حركة برودرهوف المسيحية (الآن أكثر من 90 سنة)، ولمسنا أيضا قوة الروح القدس الذي هو روح التحرّر والخلاص والشفاء، وتمكنّا كذلك من أن نشهد لهذه القوة القديرة. فلا يمكن لمعجزة كهذه أن تصدر عنّا نحن البشر أبدا.

فكيف لنا أن ندخل إلى أجواء هذه المعجزة؟ سنجد الجواب في كلمات ترتيلة عزيزة علينا منذ زمن مجتمع زانرز Sannerz (وهو أول مجتمع لحركتنا في قرية ألمانيّة)، فتذكر الترتيلة: "ننتظر انتظارا مقدسا في بيتنا." فنحن نعمل في بيتنا بتفانٍ (البيت هنا هو مجتمع الكنيسة)، ونعلم بوجه اليقين أنّ الروح القدس، الذي هو طبيعة يسوع التي تتصف بالكمال، سوف يأتي إلينا. ماذا حدث عندما حلّ الروح القدس على جماعة التلاميذ أول مرة؟ يجب أَلَّا تخور عزيمة أي شخص أمام حقيقة وجوب الانتظار طويلا لمجيء الروح القدس. فقد كان ينبغي للجماعة الصغيرة في أورشليم (أي جماعة الرسل) أن تجتاز فترة صعبة من الانتظار التي كانت تبدو بالتأكيد وكأنها بلا نهاية، إلا أنّه حدث فعلا: فقد حلّ عليهم الروح القدس. وفجأة تغيّر كل شيء. ونحن نؤمن بضرورة حدوث هذا التغيّر في كل حين.

وبَينَما هوَ يأكُلُ معَهُم قالَ: ((لا تَترُكوا أُورُشليمَ، بَلِ اَنتَظِروا فيها ما وعَدَ بِه الآبُ وسَمِعْتُموهُ مِنِّي: يوحنَّا عَمَّدَ بالماءِ، وأمَّا أنتُم فتتَعَمَّدونَ بِالرُّوحِ القُدُسِ بَعدَ أيّامٍ قَليلةٍ)). ... ولمَّا جاءَ اليومُ الخَمسونَ، كانوا مُجتَمعينَ كُلُّهُم في مكانٍ واحدٍ، فخرَجَ مِنَ السَّماءِ فجأةً دَوِيٌّ كَرِيحٍ عاصِفَةٍ، فمَلأ البَيتَ الّذي كانوا فيهِ. وظَهرَت لهُم ألسِنَةٌ كأنَّها مِنْ نارٍ، فاَنقَسَمَت ووقَفَ على كُلِّ واحدٍ مِنهُم لِسانٌ. فاَمتَلأوا كُلُّهُم مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، وأخذوا يتكَلَّمونَ بِلُغاتٍ غَيرِ لُغَتِهِم، على قَدْرِ ما مَنَحهُمُ الرُّوحُ القُدُسُ أنْ ينطِقُوا. (أعمال 1: 4-5؛ 2: 1-4)


لقد انتبهنا اليوم مرة ثانية إلى أننا لا نريد أن نرى أخويتنا الصغيرة وبأي شكل من الأشكال أنّ تكون الهدف الرئيسي لكفاحنا، وإنما هي مؤشر نحو الهدف. فلا نبتغي أبدا توطيد أخويتنا لمصلحة أخويتنا نفسها، أو مجتمعنا المسيحي لمصلحة مجتمعنا المسيحي نفسه. إننا نريد من أخويتنا أن تكون فعالة في السلام والوحدة والوئام في سبيل أن يتمكن العالم بجميع شعوبه من بلوغ ملكوت العدل والسلام – ملكوت الله. وبعبارة أخرى، نريد أن نعمل ونتحرك لكي يأتي ملكوت العدل والسلام إلى العالم بأسره. وبهذا سيجري مجابهة القوى المهولة للعداء والحقد ومرارة الضغينة وسوء الظنّ من قِبلِ جماعة صغيرة – مهما كان صغرها – حيث تقوم هذه الجماعة بإرسال إشعاعات من الوحدة والسلام والعدل والإخاء والإنسانية إلى العالم، وإشعاعات محبة الله ومحبة المسيح، وإشعاعات القوة القديرة لملكوت الله. فهذا هو ما نريد أن نعيش من أجله، وهذا هو الهدف من انضمامكم إلينا.

هذا المقال مقتطف من كتاب "ثورة الله"