تحتاج أماكن عديدة في هذه الأرض إلى المصالحة مثلها مثل إسرائيل. في عام 1988 سافرت لأوّل مرة إلى تلك الأرض التي مزّقتها الحروب حيث قابلت ألياس شقور وهو كاهن ملكي (من طائفة الملكيين الكاثوليكيين) وناشط فلسطينيُّ عمل لسنوات طويلة بلا كلل من أجل السلام. واستمرّت صداقتنا حتّى هذا اليوم، وقد زار ألياس مجتمعاتنا الأخوية مرّتين.

يمكن أن يتوقع الكثيرون ويبرروا امتلاء صدره بالبغض والحقد. فهو "إنسان بلا بلد" فمنذ أن دُمّرت قريته في عام 1947، ودخل السجن لأكثر من مرّة وتحمّل سنوات من القسوة والاعتداء على أيدي الحكومة الإسرائيليّة. ولكنّه واحدا من أكثر الناس الذين عرفتهم مملوءين بالحرارة والتواضُع والحنان. فعلى الرُغم من أنّه فلسطينيّ مُشرّد إلاّ أنّه ما زال مُقتنعاً طوال الوقت بفكرة، "أن اليهود يستحقوُّن وطنا، لا لأنّهُم يهود، ولكن لأنّهُم بشر." وفي زيارته الأخيرة لمجتمعنا الأخوي "دارفل Darvell" في بريطانيا ذكّرنا قائلاً:

إن امتلأ قلبي بالغُفران لليهود وللصهيونيين، وللجنود الذي كسروا عظام أخي وسجنوا أبي - سيكون بمقدوري وقتها الذهاب إلى ذلك اليهودي لأُخبره بالحقّ وجهاً لوجه، وسيشعر أنّي أٌحبُّه، على الرُغم من أنّي أكره ظُلمه... وسأفضل أن أدعوه إلى الاهتداء بدلاً من تغيير الأدوار وأصير أنا الظالم – حاشا!


والكاهن الفلسطيني المعروف، نعيم عتيق من كاتدرائية القديس جورج في القدس له النظرة نفسها. فقد تعلّم الغُفران من أبيه الذي فقد كلّ شيء بسبب الجيش الإسرائيلي في عام 1948. فيقول:

عندما يحقد الناس على الآخرين، تبتلعهم قوة الحقد وتستهلكهم بالكامل... لذلك واصل مُقاومة الشعور بالكراهية والحقد. فأحياناً سيكون لك اليد العُليا، وأحياناً أُخرى ستشعر بأنّك انهزمت. وعلى الرُغم من أنّ هذا أمرا صعبا للغاية، لكن لا تسمح للكراهية أن تتغلّب عليك...
لا تكُفّ عن مُحاولة العيش بوصيّة المحبّة والغُفران.
ولا تخفف من القوّة الكامنة في رسالة يسوع: فلا تتجنبها، ولا تصرف النظر عنها على أنّها كلمات غير واقعية وغير عمليّة. ولا تُحاول أن تُكيّفها مع وضعك مُحاولاً أن تجعلها أكثر إمكانيّة للتطبيق في الحياة العمليّة. لا تغيّرها لتجعلها تناسبك. لكن احتفظ بها كما هي، وتلهف عليها وتشوّق لها، واعمل مع الله من أجل تحقيقها.


وبشارة عوض، مثله مثل الكثيرين في جهتي الصراع العربي – الإسرائيلي، قد نال نصيبه من الظلم. وهو أحد معارفي الفلسطينيين. فقد أخبرني حديثاً عن صراعه الذي استمر طوال حياته ليغفر، قال:

في عام 1948 مات آلاف الفلسطينيين في الحرب الفظيعة التي قامت بين العرب والمُستوطنين اليهود وتشرّد الكثيرون. ولم تسلم عائلتنا من هذه الحرب. فقد قُتل والدي برصاصة طائشة، ولم يكن هُناك مكانٌ يليق بدفنه. فالجميع كان يخشون أن يترُكوا تلك المنطقة خوفاً من أن يصيبهم الرمي من كلا الجانبين، ولم يكن هناك كاهن أو قسُّ ليُصلّي عليه. لهذا قرأت لنا أمي من الكتاب المُقدّس ودفن الرجال الذين كانوا موجودين أبي في ساحة الدار. فلم تكُن هناك وسيلة لكي يأخذوه إلى المقابر العاديّة في المدينة.

وأصبحت أُمي أرملة في سنّ التاسعة والعشرين، ولديها سبعة أطفال. وكُنُت في ذلك الوقت في التاسعة من عمري. ولعدّة أسابيع حاصرتنا النيران ولم نستطع أن نترُك غُرفة السرداب. وفي إحدى الليالي دفعنا الجيش الأردنُّي للهُروب إلى المدينة القديمة. وكانت هذه هي المرّة الأخيرة التي رأيت فيها منزلنا وأثاثنا. وهربنا بملابسنا على ظهورنا وكان بعضنا يرتدي ملابس النوم فقط...
وفي المدينة القديمة كُنّا لاجئين. فوضعونا في مخزن للنفط وبلا أثاث. وأعطتنا أُسرة مُسلمة بعض البطانيات وشيئاً من الطعام. كانت الحياة قاسية للغاية؛ وما زلت أتذكّر الليالي التي كُنّا نذهب فيها للنوم بلا أكل.
وأخذت أُمي تدرس التمريض، وحصلت على وظيفة في المستشفى بمبلغ 25 دولاراً في الشهر. وكانت تعمل في الليل وتستكمل دراستها أثناء النهار، وتم وضعنا نحن الأطفال في الميتم. وقبلت مدرسة مُسلمة أخواتي البنات أما نحن الصبيان فقد تم وضعنا في منزل سيدة بريطانيّة. وكان هذا كارثة بالنسبة لي فقد فقدت والدي والآن آُخذت من أمي ومن عائلتي.
كان يُسمح لنا بزيارة المنزل مرّة في الشهر، ومكثنا في بيت البنين لمُدّة اثني عشر عاماً. استمرّت مُعاناتي وإخوتي وثمانين ولدا آخرين، فلم يكُن لدينا ما يكفي من طعام، وكان الطعام سيّئاً للغاية، وكانت المُعاملة قاسية.

ذهب بشارة عندما بلغ سن الرشد إلى الجامعة في الولايات المُتّحدة وأصبح مُواطنا أمريكيّا. وعاد مرّة أُخرى إلي إسرائيل وحصل على وظيفة كمُعلّم في مدرسة مسيحيّة. وعندما يتذكر السنين السابقة يقول:

في السنة الأوُلى شعرتُ بالإحباط، فلم أنجز أيّ شيء، وشعرت بالهزيمة... فقد كان هناك جبل من الكراهية في داخلي ضد اليهود الظالمين: فقد كان كلّ تلاميذي فلسطينيين، وجميعهم عانوا بنفس الطريقة التي عانيت بها... ولم أستطع مُساعدة تلاميذي بسبب مشاعر الكراهية نفسها التي كانت بداخلي فقد أضمرتها في نفسي منذ طفولتي حتى من دون أن أدري بها.
وفي تلك الليلة صلّيت إلى الله بدموع. وطلبت منهُ أن يغفر كراهيتي لليهود لأنّي كُنت قد سمحت للكراهية أن تُسيطر على حياتي. فأخذ الله في تلك الليلة مشاعر الإحباط والكراهية وفُقدان الأمل ووضع مكانها المحبّة.


في المجتمع الذي يتمّ فيه التأكيد على ضرورة الحفاظ على الذات وعلى تشجيع الفردانية، يجري تجنّب أعمال المغفرة فيه، إن لم يتمّ الازدراء بها. فيُنظر إليها كضعف؛ لقد تعلّمنا أن نُطالب بحقوقنا ونحميها لا أن نتنازل عنها.
غير أنَّ المُحامية الفلسطينيّة لحقوق الإنسان "رجاء شديد" تُفَنِّد كل هذا وتقول إنّ يسوع قلَبَ هذا المنطق رأساً على عقب عندما دعا الناس إلى الغُفران لأعدائهم. فتقول:

تحمل ممُارسة الغُفران الكثير من القوة. فهي تأكيد على كرامة الإنسان لأنّه يملك الوسيلة والقُدرة على الغُفران... رُبّما يكون من الصعب أن تفهم ذلك، ولكن من وجهة النظر المثاليّة أعتقد إنّه إن كانت هُناك رغبة في إحلال السلام هنا فلا بُدّ أن يكون هُناك غُفران... فيجب أن نغفر للإسرائيليين ما فعلوه فينا.

وحاشا للغُفران أن يجعلنا ضعفاء أو عرضة للاعتداء، بل إنّه يُقوّي حياتنا وعملنا. فهو يجلب نهاية إنسانية حقيقية لأصعب المواقف، وذلك لأنّه يسمح لنا أن نترك جانبا مقاييس العدالة الإنسانيّة والُمُجازاة عن الشرّ بالشر، وأن نختبر السلام الحقيقيّ للقلب. والأكثر من ذلك، فهُو يُوظّف سلسلة من ردود الأفعال الإيجابيّة التي تأتي بثمار الغُفران للآخرين أيضا.


هذا المقال مقتطف من كتاب"لماذا نغفر؟"