أنا مذنب

عندما نتحدث عن ثورة اجتماعية جذرية، وعن قلب كل شيء رأسا على عقب، وعن تجسيد نظام العدالة الإلهية على أرض الواقع، فلا يمكننا القيام بذلك إلّا إذا كنّا على قناعة وجدانية بأنّ ثورة كهذه ستؤثر فينا جميعنا أيضا بصفة شخصية، أنا وأنت، وكل فرد منّا، باعتبارنا جزء من البشرية. فنحن شخصيا نحتاج إلى أن نتغيّر كليا بل يجب أن نهدم كياننا كله هدما تاما ومن ثم نعيد بناءه وتنظيمه من جديد. فنحن جميعنا مسئولين عن الظلم الاجتماعي الذي يحصل، وعن الحطّ من قدر البشر، وعن الجور الذي يقترفه الناس بعضهم بحقّ بعض، على الصعيدين العام والخاص. فكل واحد منّا يقترف ذَنْبا بحق الإنسانية جمعاء لأننا نَصُمُّ آذاننا ونغمض أعيننا عن الذلّ والاحتقار اللذين يلقاهما الناس.


هناك شبكة كاملة من الذنوب منسوجة حول الأرض، ذنوب ثقيلة على ضمائرنا...

إنّ إحدى الطلبات التي نلتمسها في الصلاة الربانية هي: "اِغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا،" أيْ ذنوبنا. (متى 6: 12) فكان يترتب علينا كلنا أن نرى دورنا في ذنوب العالم. فنحن مذنبون بالقدر نفسه إذا هلكت قرية بأكملها من الجوع في روسيا، وإذا اندلعت حرب في أمريكا الجنوبية بسبب نهر. لأننا نحسّ بأننا قد ارتكبنا ذنبا في كل هذه الأشياء.

وأكثر ما يؤنب ضميرنا هو موضوع البطالة. ثم إني أحسّ بذنبي لأن الكثير من الأطفال ليس لديهم ما يأكلونه. وأشترك في ذنوب الحكومة البريطانية عن تحمل مسؤولية الظروف الرهيبة في الهند (إبّان الاحتلال). بالإضافة إلى أنني أحسّ بالذنب عن وجود الدعارة كعبودية حقيقية، لأن المال يهيمن على نفوس الناس. هذا ونحن مذنبون عن كل طفل يموت هذه الليلة! فذنبنا مضاعف ملايين المرات بسبب أحوال الدنيا على ما هي عليها الآن، وكذلك بسبب الكثرة المروِّعة للخطيئة والفواحش التي تملأ الدنيا. فإذا أدركنا هذا سنفهم لماذا قال لنا يسوع أن نصلي: "اِغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا،" ليست خطاياي وحدها بل خطايانا أجمعين!


نحن لسنا بكائنات منعزلة. فجميع أفراد مجتمعاتنا المسيحية جزء من الكل الذي لا يتجزأ، ألا وهو الجنس البشري. ونعلم أنّ البشرية كلها ترزح تحت وطأة العذاب الذي يعيشه الجميع. وكل صرخة اشتياق مهما كانت هي من جرّاء هذا العذاب. فالبشرية تنتظر ذلك اليوم الذي سيكون فيه الجميع متحدين. ففي ذلك اليوم، ستَدفنُ الفاجعة العظيمة كل ما يقسّم الناس، وسيطلّ يوم الخلق الجديد بفجره، حاملا معه بهجة الفردوس التي ستحلّ محلّ جميع معاناة العالم.

اُبذُلْ حياتكَ

في حياتنا المسيحية المشتركة، نعيش نحن في فقر وبدون أية ممتلكات شخصية؛ ونفعل هذا محبة بالمسيح ولأجل أولئك الذين هم أفقر منّا، أيْ المعدمين. فهناك عدد كبير من المآسي التي لا حدّ لها بحيث لا يتحمّل كل من يحيا بمحبة المسيح أن يستمر في عيشة الغِنى ورفاهية الحياة. والأمر الذي لا سبيل لإنكاره هو أنّ كل من الخطيئة والظلم يحكمان في العالم اليوم، وطالما استمر هذا الوضع، سيكون هناك دائما فقراء. أما السؤال التالي: "ماذا سنفعل لو لم يبقى فقراء؟" فما هو إلّا كلام فارغ، لأنه حتى الأنظمة الاجتماعية المتشددة للغاية التي تقدم مساعدات اجتماعية جيدة جدا لم تفلح بالتخلص من الفقر. لذلك يقول يسوع: "الفُقَراءُ عِندَكُم في كُلِّ حينٍ". ويذكرها العهد القديم من الكتاب المقدس، فيقول: "فَالأَرْضُ لَنْ تَخْلُوَ أبدا مِنَ الْفُقَرَاءِ..." (التثنية 15: 11) ومع ذلك يجب أَلَّا تكون محبة الفقراء هي الغاية النهائية. فيجب أن نجعل محبتنا لله تفوقها. فيقول المسيح: "وأمَّا أنا فلا أكونُ في كُلِّ حينٍ عِندَكُم". (متى 26: 11)

ومن جهة أخرى، فيجب علينا أَلَّا ندع محبتنا لله أن تجعلنا نهمل المحبة للفقراء. فحبنا لقريبنا (أيْ الناس الآخرين) لابد أن ينبع من محبتنا لله. فإذا رأيت أخاك أو أختك في حاجة وتقول: "سيساعدك الله،" ولا تقدم أية مساعدة بالرغم من أنك لديك خيرات هذه الدنيا، فأين هي محبتك لله؟

فلَو كانَ فيكُم أخٌ عُريانٌ أو أُختٌ عُريانةٌ لا قوتَ لهُما، فماذا يَنفَعُ قَولُكُم لهُما: ((إِذهَبا بِسَلامٍ! استَدفِئا واشبَعا))، إذا كُنتُم لا تُعطونَهُما شيئًا مِمّا يَحتاجُ إلَيهِ الجَسَدُ؟ (يعقوب 2: 15-16)


إذا سألك أحد أن تعطيه جاكيتك، فأعطِه معطفك أيضا. لا تكنز كنوزا أو ممتلكات للتباهي بها. لا تتزيّن في ملبسك، ولا تسعى لمتابعة الموضة أو التأنُّق. فهل ستكون شخصا بسيطا وعاديّا إذا أخذت تتظاهر بأنك من طبقة أعلى؟ وإذا أصبحتَ مسيحيا بِحقّ، فلن تملك أية ثروة أبدا. فكل ما تقوم به ينبع عن المحبة. فقد قال يسوع (بما معناه): "بِعْ كل ما تملكه أولا، ومن ثمّ تعال واتبعني". وهذا هو النص الإنجيلي لكلام الرب يسوع:

أجابَهُ يَسوعُ: ((إذا أردتَ أنْ تكونَ كامِلاً، فاَذهَبْ وبِـــــعْ ما تملِكُهُ ووَزِّعْ ثمَنَهُ على الفُقراءِ، فيكونَ لكَ كنزٌ في السَّماواتِ، وتعالَ اَتْبَعْني! )) (متى 19: 21)

اِفعلْ مثلما فعلت الأرملة.

ثُمَّ جاءَت أرمَلةٌ فَقيرةٌ، فألقَت في الصُّندوقِ دِرهَمينِ. فدَعا تلاميذَهُ وقالَ لهُم: ((الحَقَّ أقولُ لكُم: هذِهِ الأرمَلةُ الفَقيرةُ ألقَت في الصُّندوقِ أكثرَ مما ألقاهُ الآخرونَ كُلُّهُم. فَهُم ألقَوا مِنَ الفائِضِ عَنْ حاجاتِهِم. وأمّا هيَ، فمِنْ حاجَتِها ألْقَت كُلَّ ما تملِكُ لِمَعيشَتِها)). (مرقس 12: 42-44)

كُنْ إنسانا حقيقيا، ولكونك حقيقيا، كُنْ بسيطا. فالحقيقة المطلقة هي البساطة المطلقة. ثم إنه لا يمكن أن توجد وحدة أخوية في الكنيسة إلّا إذا كان الجميع أشخاصا حقيقيين وفي بساطة مطلقة...

وبعدما قال يسوع لتلاميذه: "لا تَكنِزوا لأَنفُسِكُم كُنوزاً،" قال أيضا ولاسيما للفقراء والمعدمين بما ملخّصه: "لا تقلقوا على معيشتكم. فيجب أن تثقوا بالله ثقة مطلقة، لأنه يهب الأزهار جمالها والطيور مأكلها. ولا تجاهدوا إلّا في سبيل ملكوت الله وعدله". فلا تهدفوا إلى الحصول على وظيفة ذات مدخول جيد. وستجدون ميدان العمل الصحيح لكم. ولا تجاهدوا إلّا في سبيل ملكوت الله وعدله، وليشمِلْ كل منكم زوجته وأولاده بجهاده. عندئذ سيحلّ كل شيء في محله الصحيح: أيْ الكيفية التي ستعيش بها كل ساعة وكل يوم. فهذا سيجعلك تلميذا حقيقيا للمسيح. فيجب عليك أَلَّا تجمِّع كنوزا لنفسك، وأَلَّا تقلق على معيشتك. (راجع متى 6: 25-34)


ما من حبّ أعظم من أن يضحي الإنسان بحياته في سبيل الإخوة والأخوات. (يوحنا 15: 13) واِسترخاص الحياة لا يعني الاستشهاد في ميتة بطولية فحسب بل يعني أيضا إيجاد الحياة التي تعيش في كل لحظة فيها من أجل الآخرين. ففي مثل هذه الحياة يمكننا تقديم كل قوتنا، وكل ثروتنا، وكل ممتلكاتنا، وكل مواهبنا الفكرية إلى الآخرين.

وهذه الحياة هي الحياة التي عاشها يسوع. فلم يتساءل ما إذا كانت فلسطين بلد صغير؛ ولم تتشوّق نفسه إلى حياة داخل قصر في روما. فلم يكسب أي درجات شرفية أو ألقاب، ثم إنه لم يحصل على أي منصب أو مكانة ذات تأثير أو نفوذ. فقد مضى في أوضع وأبسط طريق. وعندما وُلِد، وُضِع في مَعلَف للماشية. وطريقه كله كان طريق الفقر الشديد. وكان من أبسط الطرق، وكانت نهاية طريقه مثل بدايته - في فقر مُدقِع، في فقر الصليب.

يمكن للمعاناة أن تعمِّق الإيمان

عندما نحاول فهم جوهر المعاناة، سنرى أنها ضرورية في بحثنا عن العلاقة مع الله. ويرجع سبب ذلك إلى الحياة العليلة وغير المحرَّرة التي نعيشها، أي بمعنى الحياة المقيدة بالآثام. فنحن بحاجة إلى معاناة. فكلما عانينا أكثر وكنا على وعي ببؤسنا، أدركنا أكثر أنّ يسوع هو ترسنا وحامينا الوحيد. فما تعب مطلقا لسان باسكال Pascal من ترديد عِبرة مفادها أنّ إدراك حقيقة البؤس الذي يُحِيطُ بنا لا يأخذنا إلّا إلى اليأس ما لم نؤمن بالمسيح.

فالمسيح هو مخلصنا؛ فهو يعلم مدى عمق شقائنا. وهو سبيلنا الوحيد إلى التحرر من الخطيئة والعذاب. ثم إنه يعلم بالظلمة التي تخيم علينا وباليأس الذي يستبد بنا. وقد هيأ لنا كل ما يعيننا من قوة وابتهاج في الحياة اللذين بمقدورهما أن يُحَرِّراننا من بليَّتنا البائسة. ويعلم يسوع أن الحياة تبدو لنا بالتأكيد شاقة ومرهقة، ولكنه يعيش في اتحاد مع روح الله، الذي لديه القدرة لتحريرنا، وقد قال لنا: "اللهَ أباكُم يَعرِفُ ما تَحتاجونَ إلَيهِ." (متى 6: 8)

وقد عرف يسوع المعاناة حقّ المعرفة. فقد عرف الجوع والعطش. ولم يكن له ما يضع عليه رأسه.

فأجابه يسوع: ((للثعالب أوكار، ولطيور السماء أعشاش، وأما ابن الإنسان، فلا يجد أين يسند رأسه)). (متى 8: 20)

ولم يكن له لا دار ولا بيت. إلّا أنّه كان يعرف أباه السماوي، الذي كان له فيه بهجة الروح الدائمة. فقد أثبت لنا يسوع أن السعادة في الحياة تعتمد على شيء واحد فقط، هو مدى معرفتنا بأبينا السماوي.


عندما نلاحظ أنّ يوم الحساب آتيا إلينا كالعاصفة حينما تأخذ الغيوم السوداء بالتراكم بعضها فوق بعض، فيجب علينا آنذاك أن نستعدّ للذهاب في طريق الصليب وذلك بتسليم ذاتنا تسليما مطلقا. وتماما كما تَبَيَّنَت لنا المحبة الكاملة مرة في موقف يسوع عندما أُدِينَ وقُتِل، فكذلك يجب على كنيسة المسيح أن تُكَمِّل تحمُّل آلام المسيح المتبقية إلى يومنا هذا.

وأنا الآنَ أفرَحُ بالآلامِ الّتي أُعانيها لأجلِكُم، فأُكمِلُ في جَسَدي ما نَقَصَ مِنْ آلامِ المَسيحِ في سَبيلِ جَسَدِهِ الّذي هوَ الكَنيسَةُ. (كولوسي 1: 24)

ولحد الآن يلزمنا أن نتعمّق أكثر في قبول آلام الصليب والموت عن رضا. فما لم يكن لدينا هذا الاستعداد فلا يحق لنا أن نسأل الله ليتدخل ويصنع تاريخه المقدس من خلالنا.


تكمن سلطة كنيسة المجتمع المسيحي في المسؤولية المسندة إليها لتمثيل ملكوت الله في العالم. ومن إحدى النتائج المترتبة على ذلك سيكون الاضطهاد.

إنْ أبغَضَكُمُ العالَمُ، فتَذكَّروا أنَّهُ أبغَضَني قَبلَ أنْ يُبغِضَكُم. لَو كُنتُم مِنَ العالَمِ، لأحبَّكُمُ العالَمُ كأهلِهِ. ولأنِّي اَختَرْتُكم مِنْ هذا العالَمِ وما أنتُم مِنهُ، لذلِكَ أبغَضَكُمُ العالَمُ. تَذكَّروا ما قُلتُهُ لكُم: ما كانَ خادِمٌ أعظَمَ مِنْ سيِّدِهِ. فإذا اَضطَهَدوني يَضطَهِدونَكُم، وإذا سَمِعوا كلامي يَسمَعونَ كلامَكُم. (يوحنا 15: 18-20)

فينبغي أن ندرك أننا ومن دون أي شك سنُضطهد. وقد كان الإخوة يكررون الكلام التالي: "يجب علينا أن نكون على استعداد للاستشهاد." فيجب علينا أن نكون على استعداد لتُسْلَب منّا بيوتنا، وأرضنا، وجميع أملاكنا المشتركة؛ فهذه الأشياء قد أعطانا إياها الله لنستعملها من أجل إخواننا البشر فقط. فكل واحد منّا يجب أن يكون على استعداد للتخلي عن الحياة نفسها. ولن نكون أبدا مهيّأين لذاك الاستشهاد ما لم نكن أولا على استعداد للقيام بأوضع الأعمال الصعبة يوميا وكذلك أدائها بكل سرور.


الألم هو المحراث الذي يشقّ قلوبنا ليجعلنا منفتحين على الحقيقة. فلَوْلاَ المعاناة لما أدركنا مطلقا ذنوبنا، وما انكشف لنا عدم إيماننا بالله، والظلم الصارخ الذي تتصف به أحوال البشر.

ضَلَلْتُ قبلَ أنْ تُعينَني، والآنَ أسهَرُ على كَلِمَتِكَ. ..

ما عانَيتُهُ كانَ لِخيري، لأنِّي تَعَلَّمْتُ إِرشاداتِكَ. (مزمور 119: 67 و 71)


ليس من الصواب القيام بمحاولة إزالة كافة أشكال المعاناة، ولا حتى كظمها وكبتها من غير تأثُّر أو اِنفعال، بحسب الفلسفة الرواقية. فيجب الاستفادة من المُعاناة، بل يجب تحويلها إلى ما هو خيّر لتمجيد الله. فما يجعل الحياة سعيدة أو تعيسة هو ليس الظروف الخارجية بل موقفنا الداخلي تجاهها.

أيُّها الأحِبّاءُ، لا تتَعجَّبوا مِمّا يُصيبُكُم مِنْ مِحنَةٍ تَصهَرُكُم بِنارِها لامتِحانِكُم، كأنَّهُ شيءٌ غَريبٌ يَحدُثُ لكُم، بَلْ افرَحوا بِمِقدارِ ما تُشارِكونَ المَسيحَ في آلامِهِ، حتّى إذا تجَلَّى مَجدُهُ فَرِحتُم مُهَلِّلينَ. (1 بطرس 4: 12-13)

فالحجر الكريم لابد له أن يُقَطَّع ويُصْقَل إذا أراد أن يكون جوهرة متكاملة. ومن الواجب على كل جندي صالح ليسوع المسيح أن يتألم وأن تشتهي نفسه الألم.

شارِكْ في احتِمالِ الآلامِ كَجُندِيٍّ صالِحٍ لِلمَسيحِ يَسوعَ. (2تيموثاوس 2: 3)

أنّ الصمود عند مواجهة المعاناة يبيّن لنا أننا قد سلّمنا أمرنا لمشيئة الله كليا وفي الوقت نفسه لدينا الشجاعة للحركة والعمل الدؤوب. فكلاهما مطلوبان إذا أردنا أن يستعمل الله حياتنا.


إنّ أشد أنواع المعاناة هي معاناة انعزال روح الإنسان عن الله، ونفور الناس بعضهم من بعض، بالإضافة إلى اليأس الذي تسببه الخطيئة. ففي الروح المنقسمة على نفسها يعاني الضمير عذابا مريرا لأن الروح مفصولة عن الله.


ومع ذلك فإن المعاناة البالغة يمكن لها أن تقرّبنا من الله أكثر مما يقدر عليه أي شيء آخر. فقد أُجُبِرَ أيوب الصِدِّيق في خضم عجزه جراء معاناته وآلامه الشديدة أن يقول:

مَا هِيَ قُوَّتِي حَتَّى أَنْتَظِرَ وَمَا هِيَ نِهَايَتِي حَتَّى أُصَبِّرَ نَفْسِي؟ هَلْ قُوَّتِي قُوَّةُ الْحِجَارَةِ؟ هَلْ لَحْمِي نُحَاسٌ؟ أبَقِيَت في داخلي قُدرَةٌ؟ أما كُلُّ عَونٍ تباعَدَ عنِّي؟ (أيوب 6: 11-13)

إلّا أنّ ذلك قاده بعدئذ إلى أن يثق بالقوة التي هي أعظم من أية قوة أخرى. وأدت تلك التجربة إلى تنقية أيوب. ومنذ ذلك الحين أخذ أيوب الصِدّيق يلتفت إلى الله وحده، وصارت نفسه تشتهي الله وليس سواه، وصار بمقدوره أن يصيح وينادي:

أَمَّا أَنَا فَإِنِّي مُوْقِنٌ أَنَّ فَادِيَّ حَيٌّ، وَأَنَّهُ لاَبُدَّ فِي النِّهَايَةِ أَنْ يَقُومَ عَلَى الأَرْضِ. وَبَعْدَ أَنْ يَفْنَى جِلْدِي، فَإِنِّي بِذَاتِي أُعَايِنُ اللهَ... (أيوب 19: 25-27)

يدعو الله الفقراء والمتواضعين

قال يسوع المسيح:

أحمَدُكَ يا أبـي، يا ربَّ السَّماءِ والأرضِ، لأنَّكَ أظْهرتَ للبُسطاءِ ما أخفَيْتَهُ عَنِ الحُكَماءِ والفُهَماءِ. (متى 11: 25)

أنّ المتواضعين والمحتقرين في نظر العالم هم على وجه التحديد المدعوون من قِبَل الله للقيام بأكثر مهمة حيوية على الأرض، ألا وهي تجميع كنيسته المقدسة وإعلان إنجيله الشريف.

تذَكَّروا أيُّها الإخوةُ كيفَ كُنتُم حينَ دَعاكُمُ اللهُ، فما كانَ فيكُم كثيرٌ مِنَ الحُكماءِ بِحكمَةِ البشَرِ ولا مِنَ الأقوِياءِ أو الوُجَهاءِ. إلاَّ أنَّ اللهَ اختارَ ما يَعتَبِرُهُ العالَمُ حماقَةً ليُخزِيَ الحكماءَ، وما يعتبرُهُ العالمُ ضُعفًا ليُخزِيَ الأقوِياءَ. واختارَ اللهُ ما يَحتَقِرُهُ العالَمُ ويَزدَريهِ ويَظُنُّهُ لا شيءَ، لِيُزيلَ ما يَظُنُّهُ العالَمُ شيئًا، حتّى لا يَفتَخِرَ بشَرٌ أمَامَ اللهِ. (1 كورنثوس 1: 26-29)

ونرى دائما أن القضية هي بمثابة تضارب هدفين متعارضين: فالهدف الأول هو أن يسعى المرء أن يصبح شخصا ذا مكانة مرموقة، أو شخصا عظيما، أو روحانيّا، أو ذكيّا، أو ممتازا، أو شخصا يمثّل أعلى درجة في مجال معين لما يملكه من مواهب، كما هو الحال مع سلسلة الإنجازات الجبلية التي حققتها البشرية، إذا جاز التعبير. والهدف الآخر هو البحث عن الناس المتواضعين، والأقليات، والمعاقين والمتخلفين عقليا، والسجناء: أي ذلك الوادي الذي يقع بين مرتفعات العظماء. إنهم المرذولون، والمستعبدون، والمستغَلون، والضعفاء الفقراء، وأفقر الفقراء. فيهدف الهدف الأول إلى تمجيد الفرد، بفضل مواهبه الطبيعية، ليصل إلى حالة يضاهي فيها ما هو إلهي. وفي نهاية الأمر، فقد جُعِل إله. أما الهدف الآخر فيسعى إلى الأعجوبة والسرّ عندما يصبح الله إنسانا، حيث يسعى الله ليأخذ أكثر الأماكن تواضعا بين البشر.

اتجاهان متعاكسان تماما. فأحدهما هو طموح الارتقاء لتمجيد الذات. والآخر هو الاتجاه الهبوطي ليصبح إنسان. فأحدهما هو طريق حب الذات وتمجيد الذات. والآخر هو طريق محبة الله ومحبة القريب (أي محبة الآخرين)...

نصلي من أجل البشر كله ليتحرّر من حماقة ووهم تمجيد الأشخاص "الرائعين". نصلي من أجلهم لعلهم يروا أنّ معنى التاريخ ومعنى حياة كل إنسان يكمن في يسوع المسيح، الذي هو الإنسان الجديد. فهو الإنسان الجديد الذي يجب علينا أن نجاهد أمامه بوحدة أخوية متلاحمة كوحدة أعضاء الجسم؛ عندئذ سننتمي إليه. وسيتجدَّد الجنس البشري من خلاله وبه. وسوف يبدأ هذا التجديد في جسد المسيح، الذي هو الكنيسة المقدسة.


هذه المقالة مقتطفة من كتاب «ثورة الله»