إنّ وعود الثورة الفرنسية الرائعة : الحرية، والمساواة، والأُخُوّة، جعلت الشاعر الإنجليزي الكبير ويليام ووردزورث William Wordsworth، الذي كان بعمر 21 عاما، يشعر بالنشوة. وإذا عدنا إلى الماضي، إلى تلك الفترة، فسنجد أنه قد نظّم قصيدة مشهورة التي أثارت الحماسة في نفوس جيله من الشباب، حيث يقول: «هنيئا للذي كان حيّا في ذلك الفجر،/ ولكنها جنة عندما يكون المرء شابّا!» لقد شعر بالتأكيد هو وزملاؤه الثوار الذين كانوا يطمحون إلى تغييرات جذرية في المجتمع – «نحن الذين كنّا أقوياء في المحبة» – بالقدرة على عمل تغيير حقيقي هنا والآن: «ليس في العالم المثالي.... ولكن في العالم الواقعي هذا، الذي هو عالمنا أجمعين.»

وقد تمت ملاحظة حَمِيّة الشاعر الشاب ويليام ووردزورث عبر القرون الفاصلة. أما في القصيدة التي نظّمها في عام 1805م بعنوان The Prelude (بمعنى المقدمة)، التي تظهر فيها الأبيات أعلاه، فقد حظيت تفاصيل البرنامج الثوري الفرنسي باهتمام ضئيل. لأنه ما كان يهم هو الإحساس باحتمالات لا نهاية لها، والإثارة والفرح بتكاتفنا «نحن» معا لتشكيل عالم جديد.

تظهر هذه الإثارة في الأجواء مرة أخرى، عندما تبنّى مرشح رئاسي أمريكي بارز الاشتراكية، كما يفعل زعيم المعارضة البريطاني. وتتعجل الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا في استعادة جذورها في الحرب الطبقية، من أجل درء منافسيها من أقصى اليسار. ونمت العضوية بين الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا من ستة آلاف في عام 2016م، إلى حوالي ستين ألفا في عام 2019م. وأصبح لدى 51 في المائة من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين ثمانية عشر وتسعة وعشرين، وفقا لاستطلاع أجرته مؤسسة جالوب عام 2018م، نظرة إيجابية عن الاشتراكية (45% فقط في المئة يقولون الشيء نفسه عن الرأسمالية.)

في أيامنا هذه، لا يتحدث كثيرا النشطاء الذين يسعون إلى أحداث تغييرات جذرية عن حياة الهناء، وهذا ما يمكن ملاحظته في الأقل على الصفحات الصريحة في المجلات اليساريّة، مثل مجلة «Jacobin» ومجلة «In These Times». ومع ذلك، هناك شعور بإمكانية تفتُّح أبواب جديدة للتغيير ومفاده أنه: قد حان الوقت الآن للتغلب على طغيان القوة الاستبدادية وسطوة الثروات، من خلال حركة تضامن جماهيرية.

يبدو أن معنى الاشتراكية يختلف من شخص لآخر؛ وكما كان الحال في أيام ويليام ووردزورث، لا تظهر تفاصيل برنامج محدد يقود الموجة المتطرفة. وبدلا من ذلك، فإنّ ما يسيطر على الناس هو شعور تحرري بوجود قضية للنضال من أجلها.

ولكن ما هذه القضية بالضبط؟إنّ أنصار الاشتراكية يعرفون الكيفية التي يضربون بها الرأسمالية بضربات فعالة، ولديهم شيء واحد على الأقل صحيح وهو : إننا نعيش في مجتمع يسوده غنى واسع وفقر مدقع، وهذه الحقيقة هي خطيئة عامة، التي لا يمكن لأي شخص من ذوي النوايا الحسنة أن يقبلها بسلام ويرتاح لها ضميره. وإنّ أيّ شخص يؤيد القاعدة الذهبية – «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به» – هو ملتزم أخلاقيا بالسعي لتوفير أساسيات الحياة نفسها للآخرين كالتي يرغبها لأسرته، مثل: الرعاية الصحية، والسكن اللائق، والتعليم، والأجر الكافي، والأمن في سن الشيخوخة. أما افتقار الملايين من الناس إلى هذه الأساسيات في أغنى حضارة عرفها العالم، فيجب أن يصدم الضمير.

«نحن لا نتحدث عن أشياء عظيمة، وإنما نعيشها.»
مينوسيوس فيليكس Minucius Felix

غير أن تشخيص المشكلة هو ليس العلاج حتى الآن. ويشعر الاشتراكيون في الواقع بالخجل عندما يتعلق الأمر بحقائق سيطرة الدولة على الاقتصاد بأكمله. وكتاب الكاتب السياسي الأمريكي بسكار سونكارا Bhaskar Sunkara على سبيل المثال الذي يحمل عنوان The Socialist Manifesto (بيان اشتراكي) الذي دار النقاش حوله كثيرا، يبدأ بفصل مضحك يحمل عنوان «يوم في حياة مواطن اشتراكي» حيث يتخيل المؤلف الولايات المتحدة في عام 2036م، حيث تم إلغاء العمل المأجور وتصبح وسائل الإنتاج عند ذاك مملوكة من قبل الحكومة. ولكن هذا الوصف الفاتر لشركة صلصة المعكرونة في نيوجيرسي المسماة «بونجيوفي» Bongiovi وللثورة العمالية بقيادة مغني الروك الشهير بروس سبرينغستين Bruce Springsteen هو وصف بعيد كل البعد عن الأمثلة الواقعية للحكم الاشتراكي، مثل الأزمة المستمرة في فنزويلا. وهكذا، فإنّ هذه النظرة السريعة إلى مستقبل بديل توصلنا إلى عكس ما نريد. فعلينا أن نؤمن هذه المرة، بأن التوافق الناجح بين الديمقراطية والنوايا الحسنة، سيؤدي إلى التغلب بطريقة أو بأخرى على سجل الاشتراكية الطويل المتمثل في الانزلاق إلى الديكتاتورية والقمع.

في هذه الأثناء، يشعر الرأسماليون اليمينيون بالضياع، فيما يتعلق بالغايات والوسائل. وإنّ العديد من المحافظين الشباب يستنكرون بحق الطرق التي تدمر بها الرأسمالية أواصر التضامن والمجتمع والأسرة التقليدية. فهم يرون أن النخب الليبرالية في الرأسمالية تخرب بشدّة القيم التي تعطي المعنى والكرامة لحياة العمال الفقراء، مثل: الزواج، وروابط الإيمان، ومُثُل الأنوثة والرجولة، والولاء للمكان، والشعور بالانتماء. وقد نشرت مجلة First Things (الأشياء الأولى) مؤخرا بيانا قويا يقول: «نحن نعارض مجتمعا عديم الإنسانية وقائم على الرفاهية الفردية.… ونقاوم الليبرالية المستبدة.…. ونريد دولة تعمل لصالح العمال.»

ويوجد لدى الموقعين على هذا البيان اقتراحات محددة، حول كيفية التقدم نحو هذه الأهداف. ورغم ذلك، فإنّ الملامح النهائية للمجتمع التي تفي حقا بتطلعاتهم، تظل غامضة بشكل محبط. وإنّ اقتراحاتهم لتوزيع الخيرات التي تظهر عبر الإنترنت المتمثلة في شعارات المصلحين مثل – ثلاثة فدادين وبقرة – وشعار استعادة هابسبورغ – تبدو كلها غير محتملة مثل الشيوعية المثالية لكارل ماركس.

وفي اتهاماتهم للرأسمالية، يشترك المحافظون والاشتراكيون ببعض الأرضية المشتركة الهامة، رغم أن الحلول التي يطرحونها متباينة جدا. ويقف كلّا من المحافظين والاشتراكيين ضد المدافعين عن النظام الرأسمالي الحالي، من أمثال المؤلف ستيفن بينكر Steven Pinker، الذي يذكر إحصاءات إيجابية عن الرأسمالية وتوضح ارتفاع دخل الفرد وزيادة متوسط العمر المتوقع، وانتعاش الحرية الشخصية، من أجل اتهام منتقدي الرأسمالية بنكرانهم للجميل. وردّا على ذلك، يستطيع نقاد الرأسمالية أن يشيروا إلى إحصاءات أخرى سلبية وقاتمة: فقد ارتفع معدل الأمراض العقلية في أغنى بلدان العالم، في حين أن ما يسمى بوفيات اليأس الناجمة عن الانتحار، وتناول جرعات زائدة من المخدرات، تصل إلى مستويات الأوبئة المُعدية. ويبدو أن انخفاض معدلات المواليد في البلدان التي ترتفع فيها مستويات المعيشة، يُمثِّل التشاؤم بشأن مستقبل البشرية. وهناك خطر يلوح في الأفق نتيجة للتغير الكارثي للمناخ، الذي تسببه الرأسمالية بشكل كبير. فيسأل نقاد الرأسمالية: أهذا حقا شكل الاقتصاد المُحِبّ للإنسانية؟

إنّ الحريصين على حياة أفضل من الرأسمالية، يجب أن يتخذوا قرارا حاسما، ويجيبوا على هذا السؤال: أيكمن أملهم الرئيس في استلام مقاليد السلطة الحكومية؟ فهذا ليس المكان المناسب لاستكشاف مجال استخدام السياسة وحدودها، لكن يجب على المسيحيين خاصة، أن يضعوا في اعتبارهم الجوانب السلبية الكامنة في أيّ محاولة لتأمين الصالح العام من خلال استخدام نهج الإرغام الذي تستخدمه الدولة.

ترتكز أيّ رؤية جادة للصالح العام على قناعات أخلاقية. ومع ذلك، فإنّ فرض الدولة للمعتقدات الأخلاقية هو بمثابة وضع ديانة رسمية للدولة. (حتى أن نداء مارتن هاجلوند Martin Hagglund للاشتراكية في كتابه This Life (هذه الحياة) يسميها «الإيمان العلماني.») ومهما كانت العقيدة، سواء كانت – ديانة الإلحاد الرسمية للسياسي الفرنسي روبسبير، أو التكاملية الكاثوليكية المناهضة للتعددية في المجتمع، أو نظام تدوين تطور سلوك الطالب، أو قانون الشريعة الإسلامية – ففي اللحظة التي تكون العقيدة فيها مدعومة بسيف الدولة، سوف تلعب دور المفتش الكبير الكافر في رواية دوستويفسكي، الذي يُقدِّم سعادة رخيصة الثمن مقابل الاستيلاء على الحرية الروحية أو حرية اختيار المعتقد.

يجب أن يخشى المسيحيون من القيام بهذا الدور باعتباره يشكّل تهديدا لفضيلتهم. لأن قوة السلطة تفسد الدين من الداخل، عن طريق استعمال الإكراه بدلا من القبول الحُرّ؛ وكلما اشتدّت ممارسة الإكراه، تعمَّق الفساد الروحي لدى الناس. كما احتج ترتليان الذي كان أحد آباء الكنيسة الأوائل بقوله: «من المؤكد أنه لا يوجد في الدين ما يفرض الدين.»

ومن أجل توضيح المسارين المتناقضين اللذين يمكن للمسيحيين اتخاذهما، دعونا ننتقل إلى الماضي وإلى الجذور الروحية للمجتمع الذي انتمي إليه، وهو مجتمع برودرهوف Bruderhof، في زمن الإصلاح الكنسي الأصولي في القرن الميلادي السادس عشر. فقد سعى المدعوون بالمصلحين الكنسيين القضائيين في ذلك الوقت، أمثال مارتن لوثر وجون كلفين، إلى تطهير انتهاكات الكنيسة في العصور الوسطى، من خلال التحالف مع الأمراء العلمانيين، مستخدمين سلطة الدولة لفرض ما اعتقدوا أنها تعاليم إنجيلية مُنَقّاة من الأخطاء.

على النقيض من ذلك، انبثق الإصلاحيون الأصوليون من حركة شعبية من أجل العدالة بين عامة الناس. وصاغ الفقراء مطالبهم في اثني عشر مادة، التي اُعتبِرت أول وثيقة معاصرة لحقوق الإنسان في أوروبا. وتضمنت مناشدات لإنهاء المعدلات القاسية للضرائب والعشور والعمل الإجباري، إضافة إلى دعوات للسماح لعامة الناس بالتمتع بخيرات الخليقة، التي قد أعطيت أصلا للبشرية جمعاء، إذ تقول الوثيقة: «إنه ليس من الإخاء ولا يتفق مع كلمة الله، أن لا يكون للإنسان البسيط الحقّ في صيد الطيور والأسماك.»

وعندما تحولت احتجاجات الفقراء إلى أعمال عنف في عام 1525م، أعلن كل من لوثر ورجال الدين الكاثوليك، إعطاء بركة الله على حملة القمع الدموية التي قام بها الأمراء بحقّ الفقراء؛ وقُتل ما يقدر بمائة الف. وقد وُلِدتْ حركة الإصلاح الكنسي الأصولي، في أعقاب هذا القتل الجماعي الذي أقرَّته الكنيسة. وبعد أن تعلمتْ الحركة دروسا مريرة حول حمل السلاح، كان قادتها يوعظون (في معظم الأحيان) باللاعنف. ثم إنّ حركتهم التي جسَّدت المطالب الاثني عشر اللازمة لبناء مجتمع اخوي، أُعيد صياغتها عند ذلك الوقت بإلهام مسيحي. ولأنهم أصروا على المعمودية الطوعية للبالغين بدلا من المعمودية الإلزامية للرضع، لُقَّبوا باسم أنابابتست  Anabaptists(أي بمعنى المعمدين ثانية). وأصبحت «حركة أنابابتسم» جريمة تستحق عقوبة الإعدام في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وتم إعدام نحو ثلاثة آلاف من الأنابابتستيين في العقود التي تلت.

ورغم ذلك، انتشرت الحركة. وبدأ أفراد هذه الحركة المسيحية الجادة في حوالي عام 1527م، في دولة التشيك الحالية، بتشكيل مجتمعات أخوية تعيش حياة مسيحية مشتركة، متبعين نموذج المسيحيين الأوائل، حيث أصبح كل شيء مشتركا لجميع أفرادها. وأصبح هناك بحلول نهاية القرن، ما يقرب من مئة مجتمع من هذا القبيل، فيها نحو عشرين إلى ثلاثين ألف نسمة، يعيشون في مجتمعات طوعية. ورغم أنه تم القضاء عليهم تقريبا خلال حرب الثلاثين عاما في أوروبا، إلّا أنهم نجوا. وفي فترة لاحقة، هاجر أحفادهم، المعروفون باسم الهوتريين Hutterites، إلى الولايات المتحدة. وإنّ زوجتي وأطفالي هم أحفاد فخورون لهؤلاء المزارعين الشجعان، الذين تعرضوا قبل خمسة قرون لخطر التعذيب والموت، من أجل العيش في رؤية مسيحية تطوعية للحرية والمساواة والإخاء.

إنّ هذا العدد من مجلة «المحراث» ينبع من قناعة جوهرية بالإصلاح المسيحي الخالص والجاد: بأن هناك حياة مشتركة تتغلب على الاستغلال الاقتصادي، وهي حياة عملية وواقعية جدا ومستقلة تماما عن الدولة. فإنّ هذا المجتمع البديل ممكن الآن وهنا؛ ويستطيع أي شخص الانخراط فيه. وإنّ ما هو أكثر من ذلك، إنه رؤية موجودة منذ بدايات المسيحية. فإنه في قلب موعظة يسوع على الجبل، وفي جميع أنحاء العهد الجديد، وفي كتابات أنبياء العهد القديم أيضا. وقد تجلَّت هذه الرؤية في الحياة الجماعية المتقاسمة للكنيسة الأولى في أورشليم، فيقول الإنجيل: «وَجَمِيعُ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعاً وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكاً. وَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ احْتِيَاجٌ» (أعمال 2: 44–45).

لا شك أن بعض قراء «المحراث» القدامى أخذوا يتمتمون الآن: ها نحن بدأنا ثانية بالموضوع نفسه. نعم نحن نستمر في قوله، لأن التحديات التي يطرحها الاشتراكيون تتناول جزءا من إعلان يسوع بأن المسيحية السائدة قد انحرفت بمسافة هزيلة لا سبيل إلى تجنبها. فمثلما يجري تهميش وصايا يسوع المسيح الصعبة بشأن الطلاق واللاعنف، هكذا يجري تهميش وصاياه بشأن الغِنى والملكية الخاصة «بكامل الأدب»، ويحاول الناس تبرير عدم التزامهم بها بأنها كانت مجرد جزئية تاريخية أو مبالغة خطابية. وإلّا فهناك بديل آخر، وهو أن هذه التعاليم يُنظَر إليها على أنها دعوة خاصة للرهبان، والنُسَّاك الزاهدين، والمبشرين، وهي عمل بطولي يجب أن لا يسعى إليه عامة الشعب. ويجري استبدال تعاليم المسيح هذه الخاصة بالفقر الطوعي وكرم التضحية، بمكارم الطبقة الوسطى في الإشراف الإداري وتقديم الصدقات.

إلّا أن تعاليم يسوع الاقتصادية هي جزء لا يتجزأ من الحياة التي علّمها، مثل أي من وصاياه الأساسية الأخرى، مثل: محبة أخينا الإنسان ومحبة الأعداء، أو استبشاع الرياء، أو الصدق، أو العِفَّة والنقاوة الجنسية، أو أعمال الرحمة. فهذه التعاليم ليست أقوالا متفرقة، ولكنها مترابطة كلها معا؛ إنها أسلوب حياة حُدِّدت خطوطه العريضة في الموعظة على الجبل، وهي وحدة واحدة، تُمكِّن الشخص في آن واحد، وتتطلب التحرر من الممتلكات الخاصة. فقد قال المسيح: «لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ،» فهذه حقيقة تتناول جميع مجالات الحياة. ويكرر الرسل وآباء الكنيسة الأوائل ويؤكدون الحقيقة نفسها.

إنّ هذه العلاقة المتشابكة كسلاح ذي حدين ولها تأثير إيجابي وسلبي: إذ إنّ فقدان المسيحية لعنصر واحد – موقفها الأصلي الخالص بشأن الاقتصاد – ينتهي به الأمر إلى تقويض مطالبها الأخرى أيضا. وسيكون من الأسهل بكثير الدفاع عن قدسية الحياة، إذا كان بإمكان المسيحيين أن يشيروا إلى كنائسهم كمجتمعات تقدم دعما اقتصاديا وعاطفيا سخيا للأمهات الجدد، ولأسر الأطفال المعاقين. ومن المرجح أن الزيجات سوف تستمر دون طلاق إذا تحررت من الضغوط التي يسببها انعدام الضمان الاقتصادي. ويبدو أن نصيحة «َلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ» هي نصيحة حمقاء – ما لم يكن لدى أيّ شخص مجتمع كنيسة متضامن يتدخل عندما يفقد وظيفته أو يعاني من مرض خطير. كما أن وصية يسوع المسيح باللاعنف تصبح أكثر قابلية للفهم (رغم أنها غير متوقعة بصورة أقل) إذا لم يعد على المرء أن يدافع عن ممتلكاته الخاصة، من أجل نجاة أسرته. هذه مجرد أمثلة قليلة على القوة المقنعة التي ستكتسبها المسيحية من خلال رفض المساومة على حبّ المال.

عندما يتعلق الأمر بالأخلاق أو السياسة أو اللاهوت، فإنّ قادة الثقافة المسيحية لا يفزعون من الاستفزاز، بمن فيهم أولئك الذين يتصفون بوصمة راديكالية – ولكنهم يميلون إلى السير بحذر حول موضوع علاقة الدولارات والفلوس بالتلمذة للمسيح. ويصادف المرء باستمرار الادعاء الجاف نفسه بأن حياة التقاسم الاقتصادي هامشية، وطائفية، وحَرْفِيَّة، ومتطرفة، ويستحيل تطبيقها عمليّا بتاتا.

من المهم أن نقوم بالتمييز بأن العهد الجديد لا يتحدث عن الفقر الطوعي والمشاركة في الممتلكات كمطالب أخلاقية جامدة ومُتزمِّتة، وكأنّ امتلاك الممتلكات هو خطيئة في حد ذاته، مثله مثل خطيئة الشهوة أو عبادة الأصنام. وينبع سوء الفهم هذا من الحاجة الحرفية أو الناموسية لتحويل طريق المسيح إلى قائمة من الواجبات والمحظورات. حاشا له: إنّ الحياة المشتركة في العهد الجديد هي ببساطة تعبير عملي عن المحبة عندما تفيض لتشمل المشاركة في الاقتصاد والأمور المالية أيضا. وبطبيعة الحال، فإنّ الحياة المسيحية المشتركة المدفوعة بالمحبة الأخوية الغامرة يمكن أن تأخذ العديد من الأشكال المختلفة. وإليكم بعض الأدلة المباشرة على أن الحياة الأفضل من الرأسمالية هي ليست بعيدة المنال مثلما يجري تصويرها:

ففي هذا الصيف، تحتفل مجتمعات «برودرهوف» ببداية الذكرى المئوية للعيش معا في حياة مسيحية كليّة المشاركة. وكان لمجتمعات كنيستنا عبر تاريخها نصيبها من العيوب والحماقات، تماما مثل أيّ جماعة من البشر. ولكن بفضل نعمة الله، وبفضل دعم الأصدقاء البعيدين والقريبين، لا نزال موجودين بحياتنا المسيحية المشتركة.

لقد نشأت جماعة «برودرهوف» في لحظات محمومة مليئة بالأحداث على نحو غير عادي: ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة. فقد انتقل اللاهوتي ايبرهارد آرنولد Eberhard Arnold مع أسرته في عام 1920م، من مدينة برلين إلى قرية صغيرة، من أجل البدء بمجتمع مسيحي يعيش حياة مشتركة بصورة طوعية. وكانت هذه الجماعة في البداية، حلقة من الشباب المسيحي الذين أصيبوا بخيبة أمل من تواطؤ الكنيسة في الأمور العسكرية التي أدت إلى الحرب العالمية الأولى. ولمّا كانت موعظة الجبل ميثاق هذه الجماعة، استمدوا الإلهام من الكنيسة الأولى، ومن حركة الإصلاح الكنسية الجادة أنابابتسم ‏Anabaptism، وكذلك من فرنسيس الأسيزي وكلير، ومن أوائل جماعة الكويكرز، ومن الحركة الاشتراكية الدينية التي شملت كريستوف بلومهارت Christoph Blumhardt وكارل بارت Karl Barth. وجاءت فكرة هذا المجتمع الريفي من غوستاف لانداور Gustav Landauer، الذي كان يهوديا وله رؤية مذهب اللاسلطوية التي تدعو إلى تنظيم مجتمعات تطوعية تعاونية وغير هرمية دون اللجوء إلى القوة أو الإكراه، وكان غوستاف لانداور قد تم اغتياله من قِبَل السّفّاحين اليمينيين في العام السابق (المذكورة قصته في هذا العدد من المجلة)؛ وكان غوستاف لانداور قد ألهم حركة كيبوتس أيضا،1 التي كانت تتشكل في الوقت نفسه تقريبا.

وبعد مرور قرن من الزمان، لا تزال مجتمعاتنا صغيرة بالمقارنة مع العديد من الكنائس الأخرى. ومع ذلك، فهي تضم ثلاثة آلاف شخص من جنسيات متعددة – في أكثر من عشرين موقعا في القارات الخمس – يعيشون معا، ويتشاركون في كل شيء. وفي مجتمعاتنا، فإنّ هذه المشاركة تأخذ صيغة تقديم نذر الفقر المؤبد: فكل مِنّا لا يملك أيّ شيء إطلاقا.

إنّ هدفي من ذكر هذه التفاصيل ليست لأجل التهنئة الذاتية، ولكن مجرد لأجل تثبيت حقيقة مُجرَّبة على أرض الواقع، وهي أن: الناس يمكنهم أن يعيشوا بهذه الطريقة. ويمكن أن تحصل الحياة المشتركة في بيئات جغرافية متنوعة، وبتنوع ثقافي كبير، على مدى خمسة أو ستة أجيال.

وبالطبع، فإنّ مجتمعات «برودرهوف» هي مجرد مثال حديث في التاريخ الطويل للمجتمعات المسيحية التي تعيش حياة مشتركة. لقد صرخ الوثنيون قائلين عن الكنيسة الأولى وفقا لترتليان في عام 197م: «أنظروا كيف يحب بعضهم بعضا.» ولم تكن المحبة التي أثارت إعجاب الوثنيين مسألة مشاعر رقيقة بين المسيحيين الأوائل، بل عملا ملموسا من خلال المساعدة المتبادلة، كما يصفها المؤرخ آلان كريدر Alan Kreider في كتابه «The Patient Ferment of the Early Church» (أي بمعنى: الخميرة الصبورة للكنيسة الأولى). وحسب تعبير المحامي المسيحي مينوسيوس فيليكس Minucius Felix في القرن الميلادي الثالث، «نحن لا نتحدث عن أشياء عظيمة، وإنما نعيشها.» فقد شكَّل المسيحيون الأوائل مجتمعا بديلا، عمل فيه المتعلمون والأميون والعبيد والأحرار، على خدمة بعضهم البعض كإخوة وأخوات، ولا يدّعي أي شخص منهم أنه يملك حاجة معينة لو كان غيره يحتاجها أكثر منه. ولو قلنا ما قاله الشاعر ووردزورث، فقد كان المسيحيون الأوائل «أقوياء في المحبة.»

بدءا من الكنيسة الأولى، ثم ميلاد الحياة الرهبانية في الصحراء المصرية، يشتمل هذا التاريخ على مجموعات متنوعة، مثل رهبانيات البينديكتين الأولى التي يرجع تاريخها إلى 1500 عام، والحركات الإصلاحية مثل الفرنسيسكان، والولدنسيون Waldensian في فترة العصور الوسطى، والبيجوينز Beguines، والبيغاردز Beghards، والإخوة المورافيون، ومجتمعات الرهبان اليسوعيين المعروفة باسم رودكسيون في باراغواي والبرازيل،2 وجماعة كيدنج الصغيرة Little Gidding  التي خلدها الشاعر تي. إس إليوت T. S. Eliot، وجماعة «عائلة يسوع في الصين،» وحركة دوروثي داي للعمال الكاثوليك، والمجتمعات الشعبية Comunidades de Base في أمريكا اللاتينية. وتوجد اليوم العديد من المجتمعات عبر الطيف المذهبي، من مجتمعات الفوكولاري الكاثوليكية الموجودة في إيطاليا، إلى المجتمع الإنجيلي أدسيديو Adsideo في ولاية أوريغون، إلى «دير يسوع الأنغليكاني» في كوريا الجنوبية.

يجب أن يذكرنا هذا التاريخ بإمكانيات الحاضر. ففي الوقت الذي يسأل جيل جديد أسئلة صعبة، عن العدالة والتضامن والسعادة الإنسانية، يجب علينا نحن المسيحيين أن نتذكر أننا قد تمكنا من الوصول إلى الإجابات طوال الوقت. ويجب أن نعرف من بين جميع الناس أن: حياة أخرى ممكنة.

نحن لسنا بحاجة إلى مسيحية ذات عدالة اجتماعية ضحلة، تترنح من قضية تقدمية إلى أخرى ولا تعرف إليها سبيلا. فيمكننا في الواقع الحصول على الشيء الحقيقي، ألا وهو: طريقة الحياة التي علّمنا إياها يسوع المسيح في الموعظة على الجبل. فهذه الحياة موجودة لكي نعيشها. ولكَ الهناء ما دُمتَ حيّا.


جميع اللوحات الفنية لهذه المقالة بريشة الفنانة ايلزا بالمبجياني Elise Palmigiani. elise-palmigiani.pixels.com وهي منشورة بإذن

هوامش

  1. كيبوتس Kibbutz هو مجمع يهودي سكني وتعاوني، متقاسم في العمل ومصاريف المعيشة الرئيسية، وهناك الكثير من الكيبوتسات في إسرائيل.
  2. رودكسيون: مجتمعات من سكان أمريكا اللاتينية الأصليين من الهنود الحمر، أنشئت تحت سلطة كنسية أو ملكية لتسهيل الاستعمار. وكانت أفضل هذه المجتمعات المعروفة هي تلك التي أنشأها المبشرون اليسوعيون في باراغواي والبرازيل ، حيث عُرِفت باسم رودكسيون اليسوعيون.