عندما صادف رجال عمدة البلد في مدينة نوتنغهام البريطانية Nottingham روبن هود في أعماق غابة شيروود، كان روبن هود راكعا أمام مذبح الكنيسة وهو يستمع إلى صلاة القداس. وانتظر روبن هود حتى انتهاء الذبيحة الإلهية المقدّسة قبل أن يتحول لقتالهم. وتصف القصص القديمة روبن هود باستمرار بأنه كاثوليكي متدين ومؤمن، عفيف بصورة صارمة، وقد قيل إنه كان يستمع إلى ثلاثة قداديس كل يوم قبل وجبة الإفطار. وتُوصَف عِصابة روبن هود في الواقع، بأنها جماعة من الرجال المرحين، وتتبع نظاما شبه رهباني، وكان لهم صندوق مالي مشترك واحد. ووفقا لمسرحية «سقوط روبرت حاكم هَنتينغدون The Downfall of Robert, Earle of Huntingdon» من القرن الميلادي السادس عشر، المستندة على قصص قديمة، فإنّ جماعة روبن هود قد نذروا أيضا التبتُّل في حياتهم، وإليكم بند من بنود الانضمام إلى الجماعة: «ثالثا، لا يحقّ لأي شخص يتبع روبن هود / في شيروود، أن يتخذ زوجة أو أرملة أو خادمة، / أما الأفكار الشهوانية فتُطرَد بفضل العمل الحقيقي الشاق.»

رغم ذلك، أحب روبن سرقة رؤساء وكهنة الأديرة الإقطاعية الغنية في إنجلترا: «كان ما يحصل عليه من صناديق رؤساء الأديرة الثرية، ومتاجر الفلاحين الوفيرة، يشاركه في كثير من الأحيان مع الفقراء.» فكانت هذه الأديرة تمارس نوعا من الفقر - وكان لديهم كل شيء مشترك، وكان على كل راهب أن لا يحصل إلّا على ما هو ضروري من المخزون المشترك - ورغم ذلك، كان الرهبان من الناحية المادية المشتركة، من ملاك الأراضي الأثرياء، وكان رجال الدين والقساوسة من ملّاك الأراضي المتنفّذين.

لقد قدَّمتْ الأديرة الكثير إلى الفقراء، وكانت توفر لهم نوعا من الضمان الاجتماعي. (وكان حلّ الأديرة على يد الملك هنري الثامن قد أدى في الحقيقة إلى أزمة اجتماعية.) ومع ذلك، كانت الأديرة في نظر روبن هود تقف إلى جانب الأغنياء الذين يأخذون حصة غير عادلة من المحاصيل التي ينتجها الفلاحون. وكان رجال الدين الوحيدون الذي أحبهم روبن هود، هم الرهبان النُسّاك الزاهدون، من أمثال الأخ توك Tuck، الذين كانوا مناصرين لتفسير جديد للفقر الديني، حيث كان من المفروض أن لا يوجد فيه ثراء المؤسسات التجارية.

من الواضح أن العالم في ذلك الزمان، الموصوف في الأغاني والقصص الشعبية لروبن هود في القرن الميلادي الخامس عشر، عندما كان النظام الإقطاعي في فترة ما بعد انحسار الموت الأسود، يختلف تمام الاختلاف عن عالم الرأسمالية العالمية في وقتنا المعاصر. ومع ذلك، يمكن لروبن هود في بعض النواحي أن يكون دافعا للتفكير في وضعنا الحالي.

إن الهدف الأساسي غير المباشر لسرقة روبن هود من الأثرياء من أجل أن يعطي للفقراء، هو تطبيق التعاليم المسيحية الثابتة التي تقول: إنّ الله قد منح خيرات الأرض من أجل عيش جميع البشر. فهذا هو المبدأ الذي يدعوه التعليم الاجتماعي الكاثوليكي الحديث بـ «الوجهة العالمية للخيرات»، وهو يمثل تحدّيّا مُلِحَّا لنا في عصرنا الحاضر.

وبصفتي راهبا سيسترسيّا Cistercian، أجد أن ازدراء روبن للأديرة في عصره، يثير أسئلة بالنسبة إليّ حول علاقة مجتمعي الرهباني، بمشاركة الجميع للخيرات، في إطار النظام الاقتصادي الأوسع. هذا هو السؤال الذي يجب على أي جماعة من المؤمنين، التي تحاول أن تعيش مثل الكنيسة الأولى، كما في كتاب أعمال الرسل (٢: ٤٤-٤٥)، أن تطرحه: كيف يمكننا التفاعل مع النظام الاقتصادي الأوسع الذي يحيط بنا، دون أن نشترك أو نتواطأ في غياب العدالة في هذا النظام؟

رسم بريشة إن. سي. وايث N. C. Wyeth استعمله الكاتب بولس كريسويك Paul Creswick في كتابه: روبن هود Robin Hood

إنّ وصايا السيد المسيح بالعطاء طوعيا ودون مقابل، تفي وتكمل تعاليم العهد القديم. فقد أعطى الله الأرض للبشرية جمعاء. لذلك، فإنّ إعطاء المحتاجين هو عمل عادل، حيث يُعطى لهم ما يستحقونه، مثل أولئك الذين أعطاهم الله الأرض.

بعد اهتداء الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية، ازداد عدد المسيحيين في المجتمع، وأصبح التحول للديانة المسيحية اختيارا أقل تعارضا مع ثقافة وطبائع البلد. وكان آباء الكنيسة مهتمين للغاية بإصلاح المسيحيين الأثرياء الذين فقدوا مبدأ المشاركة هذا، ويحجبون ثروتهم عن المحتاجين. وكان القديس باسيليوس الكبير في الشرق، والقديس أمبروز في ميلانو في الغرب، يؤكدان بشكل خاص على هذه النقطة. وهكذا، يبيّن باسيليوس موقف الرجل الغني في المثل الذي ضربه يسوع المسيح في لوقا (12: 18-19) عندما قال الرجل الغني: «أَعْمَلُ هَذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلاَّتِي وَخَيْرَاتِي، وَأَقُولُ لِنَفْسِي: ‹يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي!›» ويجيب القديس باسيليوس هذا الرجل قائلا: «قُلْ لي، ما الأشياء التي أنتَ تملكها؟ من أين حصلتَ عليها؟ هل قمتَ أنتَ بخلقها؟» إذ إنّ الحبوب التي نمت في الحقل لا تنتمي في الحقيقة إلى الرجل الغني؛ إنها لأولئك الذين يحتاجون إليها. وبصورة مشابهة، ألقى القديس أمبروز وعظة حول قصة طمع الملك أخآب في كرم نابوت، التي استخدمها القديس أمبروز ليخاطب من خلالها مباشرة المواطنين الأثرياء في مدينة ميلانو الإيطالية، بهذه الأسئلة التي تدعو إلى البحث والتفكير: «إلى أيّ مدى، أيها الأغنياء، يمتد جشعكم المجنون؟...لماذا تمنع عن أخيك الإنسان ما أعطته الطبيعة لك وتطالب به لنفسك؟ لقد خُلِقت الأرض من أجل الجميع، الأغنياء والفقراء. لماذا أنت وحدك، أيها الثري، تطالب بمعاملة خاصة؟» ليس ذلك من العدل، كما يعتقد أمبروز، أن يطالب الأغنياء بثمار الأرض لأنفسهم على وجه الحصر، في حين أن هذه الخيرات مُنِحت للبشرية بصورة مشتركة.

في ضوء تعاليم الكتاب المقدس وآباء الكنيسة، تساءل اللاهوتيون الجدليون عما إذا كان يمكن تبرير حيازة الملكية الخاصة بأي حال من الأحوال.

فقد قال القديس توما الأكويني إنه رغم استخدام الخيرات أو التمتع بها يجب أن يكون دائما أمرا شائعا مشتركا، بمعنى أن يستخدم كل شخص أو يستهلك ما يحتاج إليه فقط، فإنّ نظام إنتاج هذه الخيرات يمكن أن يكون خاصا، بمعنى أنه يمكن لكل شخص أن يتصرف بما ينتج. فإنه في الواقع، يقدِّم أسبابا تؤدي إلى مجتمع مسالم وعادل، حتى تكون هناك ملكية خاصة بهذا المعنى المحدد. ويعتقد القديس توما الأكويني أن الناس يميلون إلى العمل بجدية أكبر عندما يتحملون مسؤولية ما ينتجونه. ويعطي مثالا للأسرة التي يوجد بها عدد كبير جدا من الخدم: في هذه الحالة، لن يزعج بعضهم العمل من أجل المتجر المشترك، حيث يمكنهم الاعتماد على الآخرين للعمل من أجلهم: «كل رجل أكثر حرصا للحصول على ما هو لنفسه بمفرده، مما هو مشترك بين الكثيرين أو للجميع: حيث أن كل واحد سوف يتهرب من العمل، ويترك للآخر ما يهم المجتمع، كما يحدث عندما يكون هناك عدد كبير من الخدم.» وتؤكد تجربة الأنظمة الاشتراكية في القرن الميلادي العشرين رؤية القديس توما الأكويني هذه.

كما أنه يجادل بأن الأمور تكون أكثر تنظيما، عندما تكون هناك ملكية خاصة، في حين ينتج الارتباك عن الشيوعية. ويبدو أن الفكرة تشير إلى أنه يتم التعرف على الاحتياجات ومن ثم سدّها بشكل أكثر كفاءة، عندما يتحمل كل شخص مسؤولية ما ينتج.

ومع ذلك، يرى القديس توما الأكويني أن استخدام الخيرات يجب أن يظل مشتركا. وهو يعني بهذا، أنه يمكن لكل شخص أن يحتفظ فقط بما يحتاج إليه للعيش، وأن يؤدي دوره في المجتمع بشكل مناسب. ويحتاج الشخص الذي له دور تمثيلي في المجتمع (الحاكم على سبيل المثال) إلى فخفخة معينة لأداء هذا الدور، ولكن حتى في هذا المجال توجد حدود. ويلتزم كل شخص بالتخلي عن جميع السلع الزائدة عن الحاجة وتقديمها إلى المحتاجين. وهذا هو المبدأ المعروف الآن في اللاهوت الكاثوليكي باسم «الوجهة العالمية للخيرات.»

نتيجة لهذا المبدأ أعلاه، عندما يكون شخص في حاجة ماسة، فإنه قد يأخذ السلع من شخص لديه أكثر مما يكفيه، دون ارتكاب خطيئة السرقة. وهذا هو تبرير «مبدأ روبن هود» المتمثل في «سرقة» الأغنياء لمنح الفقراء. ولا يعتبر ذلك سرقة حقا، إذا كان الفقير في حاجة حقيقية، والأغنياء يعيشون في إفراط وتوافر حقيقي. أما في بلاد الراينلاند (غرب ألمانيا) فيُطلق على هذا النوع من السرقة كلمة فرنكسن fringsen وهي مأخوذة من اسم الكاردينال فرنكسFrings ، رئيس أساقفة مدينة كولونيا، الذي علَّم أفراد رعيته، عندما كانوا يموتون من البرد بعد الحرب العالمية الثانية، على «سرقة» الفحم من ساحات الفحم التابعة لشركات السكك الحديدية.

إنّ التعليم الاجتماعي الكاثوليكي الحديث في القرن الميلادي التاسع عشر، ابتداء من البابا ليو الثالث عشر، طوَّر مبدأ الوجهة العالمية للخيرات، وطبَّقه على مشاكل الاقتصادات الحديثة. وهكذا، اعتقد البابا بيوس الحادي عشر، أن الحكومة عليها واجب تنظيم الملكية الخاصة، لتصحيح التوزيع غير العادل للخيرات. وكتب في عام 1931م يقول: «عندما تضفي الدولة على الملكية الخاصة الانسجام مع احتياجات الصالح العام، فإنها لا ترتكب عملا عدائيا ضد مالكي القطاع الخاص، بل تخدمهم خدمة ودية؛ لأنها تمنع بذلك بشكل فعال، الحيازة الخاصة للخيرات، والتي رتبها خالق الطبيعة في أكثر الحالات بحكمته، لدعم الحياة البشرية، ولمنع التسبب في شرور لا تطاق.» وقال البابا بيوس الثاني عشر، إنّ الوجهة العالمية للخيرات، تتطلب من البلدان المزدهرة، استقبال المهاجرين المحتاجين من البلدان الفقيرة.

دير الصليب المقدس Stift Heiligenkreuz، حيث يعيش الكاتب كراهب

لقد تم صياغة العبارة الفعلية «الوجهة العالمية للخيرات» من قبل مجلس الفاتيكان الثاني: «أيّا كان شكل الملكية، وفقا للتكيُّف مع المؤسسات الشرعية للشعوب، ووفقا للظروف المتنوعة والمتغيرة، يجب الانتباه دائما إلى هذه الوجهة العالمية للخيرات الأرضية.» وقد ألمح المجلس إلى أنه في الاقتصاد المعولم، يتعين في بعض الأحيان، تغيير الوسائل التقليدية لتحقيق هذا المبدأ. وقد طور البابا بولس السادس هذه الرؤية في منشور «تنمية الشعوب،» والذي أكد فيه على أن الروابط التي نشأت بين شعوب مختلفة من العالم، تفرض مسؤوليات على من يعيشون في البلدان الغنية. إذ لا يمكننا الرضى عن العيش في وفرة، في الوقت الذي يكون فيه أطفال يتضورون جوعا في المناطق الأكثر فقرا من العالم.

لا تزال الكنيسة الكاثوليكية تحتفظ بموقف القديس توما الأكويني، بأن نوعا محدودا من الممتلكات الخاصة يمكن أن يكون عادلا، ومع ذلك، فقد اعتبرت دائما أنه من الأفضل للمسيحيين أن يعيشوا في مجتمعات ليس فيها توزيع الخيرات فحسب، بل يكون إنتاجها أيضا مشتركا. وفي الوقت الذي يظن الناس أن المجتمعات الأخوية الكليّة المشاركة ليست مفيدة للمجتمع ككل، إلّا أنها في الحقيقة مفيدة جدا لدى المجتمعات الرهبانية. ونحن كرهبان قد كرَّسنا أنفسنا للعيش المشترك كعلامة على أورشليم السماوية القادمة. ونحن لا نتزوج ولا يفترض بنا أن نزوّج. ونحن نخضع لطاعة النظام ورئيس الدير؛ ولدينا كل الأشياء مشتركة.

منذ بدايات الحركة الرهبانية في مصر في القرن الميلادي الثالث، تم الإقرار بأن المجتمعات المسيحية المتشاركة في الممتلكات، ترتبط ارتباطا وثيقا بالعزوبية والطاعة. فمن دون التحرر من الاهتمامات الدنيوية التي تأتي بفضل نظام الطاعة، والعزوبية (1 كو 7: 33)، فإنّ الحياة المسيحية المشتركة لن تكون مُجدِية. فمن خلال الاهتمام بأي ثروة لا لزوم لها، وفي غياب المشاركة التامة في الممتلكات، فإنّ العزوبية والطاعة تصبحان متساهلتان. وإنّ أحد الأشياء التي أجدها رائعة في المجتمعات التي تعيش حياة مسيحية مشتركة مثل مجتمعات برودرهوف Bruderhof هو أنها تبدو كمثال معاكس ومضاد لهذه الحكمة القديمة للحركة الرهبانية، بما لديهم من طاعة، وحياة مشتركة، ولكن بدون عزوبية، لأنها تضم عزابا وعائلات على حد سواء.

يعيش الدير الذي أنتمي إليه، دير الصليب المقدس Heiligenkreuz في النمسا، وفقا لمبادئ القديس بنديكت النورسي. وإنّ القديس بنديكت جازم. وهو يكتب «قبل كل شيء»:

 إنّ رذيلة الممتلكات الخاصة يجب أن تنقطع عن الدير من جذورها. فينبغي أن لا يستغل أي فرد فيه إعطاء أو قبول أي شيء دون أوامر رئيس الدير، وأن لا يكون له أي شيء خاص به. لا شيء على الإطلاق: لا كتاب، ولا لوح كتابة، ولا قلم؛ لا شيء على الإطلاق، حتى أنه لا يسمح له بالسلطة على جسده وإرادته. ولكن دع الجميع يسترشدون برئيس الدير لاستلام ما هو ضروري. ولا يمكنهم الاحتفاظ بأي شيء لم يعطه رئيس الدير لهم أو يسمح به. ولتكن كل الأشياء مشتركة بين الجميع، كما هو مكتوب في الإنجيل عن الكنيسة الرسولية الأولى: «وَكَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّ شَيْئاً مِنْ أَمْوَالِهِ لَهُ بَلْ كَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكاً» (سفر الأعمال 4: 32).

يريد القديس بنديكت أن يعيش رهبانه من عمل أيديهم، وأن يكونوا كرماء في مشاركة الخيرات التي ينتجونها مع الفقراء والذين بلا مأوى. وهو يدرك أن الرهبان سيضطرون في بعض الأحيان إلى بيع خيراتهم من أجل شراء الحاجيات الأخرى، التي لا يستطيعون إنتاجها بأنفسهم. ولكنه يوصيهم ببيعها بقيمتها الحقيقية، بحيث يكون الغرض من المعاملة هو التبادل بدلا من الربح، فيقول: «وفي الأسعار نفسها، لا تدع رذيلة الجشع تتدفق إليك، بل دع الأشياء تباع دوما أرخص مما تباع من قبل الأشخاص الدنيويين، حتى يتمجد الله في كل شيء.»

لقد تحول شكل الحياة الرهبانية الخاص بالقديس بنديكت، ربما بصورة غير متوقعة، إلى ما نسميه الآن نجاحا اقتصاديا. وإنّ التقسيم الفعال للعمل الذي يمكن تحقيقه، بواسطة مجتمع يعيش بنذور الطاعة، يعني أن الأديرة كانت جيدة في إنتاج السلع. ويظهر أن مبدأ البيع الدائم بأسعار أرخص من المنتجين غير الرهبان، هو وسيلة فعالة لجذب المشترين.

ومع ذلك كان هناك خطر كامن. فقد أصبحت العديد من الأديرة غنية جدا، وأصبح لمخازنها الكبيرة من البضائع تأثير سيء على الانضباط الرهباني. وقد تفاقمت هذه المشكلة في العصور الوسطى، حيث أصبحت الأديرة مندمجة أكثر فأكثر في النظام الإقطاعي. وغالبا ما كانت الأديرة تسيطر على الأراضي الإقطاعية، وعلى العمال الأقنان الذين عملوا في هذه الأراضي وسكنوها.1 لذلك، قضى الرهبان في القرن الميلادي الحادي عشر طوال اليوم تقريبا في الصلاة، في دير كلوني الفرنسي العظيم Cluny. ولم يعود الرهبان يعيشون من عمل أيديهم، كما أوصت القاعدة الرهبانية، لأن لديهم أقنان يعملون من أجلهم. وليس من المستغرب أن يكره الأقنان أحيانا سادتهم الرهبان، لأنهم يعتقدون أنهم حصلوا على حصة غير عادلة من إنتاج عملهم.

لا بد لي من الاعتراف بأن روبن هود ربما يعارضني

إنّ الرهبنة التي أنتمي إليها، وهي الرهبنة السيسترسية، تأسست جزئيا كرد فعل لتلك المشكلة. فأراد الرهبان السيسترسيون Cistercians العودة إلى الالتزام الكامل للقاعدة المشار إليها أعلاه، والعيش من العمل اليدوي الخاص بهم. ومع ذلك، فإنّ الجزء الأكبر من العمل البدني، حتى في الرهبنة السيسترسية، تم تقريبا من قِبل «الإخوة العلمانيين» الأُمِّيّين (من الفلاحين الذين دخلوا الدير)، بينما كان «الإخوة الرهبان» المثقفون (المعينون من طبقة النبلاء) أكثر انخراطا في العمل الفكري - مثل نسخ المخطوطات والتدريس وكتابة الأطروحات اللاهوتية - والصلاة الرسمية المتكررة. وعلاوة على ذلك، عندما كانت الأراضي تُعطى لهم لتأسيس الدير، كان الأشخاص الذين يعطوننا الأراضي، يُرحِّلون الأقنان الذين كانوا يعيشون فيها من قبل، وينقلونهم إلى مكان آخر. لقد تم تأسيس الدير الذي أنتمي إليه في عام 1133م، عندما تبرع القديس ليوبولد الثالث Saint Leopold III، حاكم النمسا، ببعض ممتلكاته الإقطاعية لمؤسستنا الرهبانية. ولا يزال بإمكاننا رؤية بعض الجدران الحجرية في الغابة خلف ديرنا، التي كانت تخص قرية تم نقل سكانها عندما تم تأسيس ديرنا. وكثيرا ما أتساءل عما كان يحسّ به الأقنان الذين عاشوا هناك، عندما اضطروا إلى مغادرة منازلهم. وقام الرهبان السيسترسيون في وقت لاحق بالسيطرة أيضا على منازل السكان الفلاحين في أراضيهم.

واليوم، لا يزال لدى ديرنا الكثير من الأراضي التي أُعطِيت لنا في العصور الوسطى، ونحن نعيش بشكل رئيس من الأخشاب والحبوب والعنب المزروع عليها. ولا يزال هناك عدد قليل من الرهبان الذين يعملون في الأرض، ولكن بسبب الضرورات المختلفة عبر القرون، فإنّ معظم الرهبان «يعملون» ككهنة رعايا في الأبرشيات القريبة، أو كمدرسين في كلية اللاهوت التابعة لنا (كما أفعل أنا). ولكن هذا يعني أن معظم العمل في غاباتنا وحقولنا ومزارع الكروم، يتم الآن عن طريق العمل المأجور. ويحب عمالنا وموظفونا أن يستشهدوا بالقول القديم، «إنّ الحياة جيدة في ظلِّ الصولجان المعقوف للكهنة» - وهذا يعني أن الكهنة أرباب العمل (يرمز إليهم بصولجان معقوف يحمله الأسقف كرمز للمنصب الإكليروسي) هم أكثر تساهلا من غيرهم. وإننا، في الحقيقة، نحاول اتباع التعليم الاجتماعي الكاثوليكي فيما يخصّ كيفية معاملة أولئك الذين نوظفهم؛ إذ ندفع لهم الأجور الكافية لإعالة العمال وعائلاتهم، وما إلى ذلك.

ولكن هذا يؤدي في بعض الأحيان إلى مواقف صعبة. فنحن اعتدنا، على سبيل المثال، أن يكون لدينا منشرة لمعالجة الأخشاب من غاباتنا. ولو كان بإمكان الرهبان العمل في المنشرة بصورة كاملة، لكان ذلك مربحا. ولكن بما أننا قد اضطررنا إلى توظيف عمال بأجر، ولأننا دفعنا لهم ما يكفي من الأجر للمعيشة، فلن يكون بمقدورهم منافسة المناشير الكبيرة والواسعة النطاق، التي تديرها الشركات المنافسة. وأخيرا، بعد خسارة الأموال على المنشرة لعدة سنوات، قررنا إغلاقها. لقد كان قرارا صعبا، ونشأت الصعوبة من الضرورة شبه المحتومة للتفاعل مع النظام الرأسمالي الأكبر الذي يحيط بنا. فهذا النظام له ديناميكية خاصة به، يصعب الهروب منها.

N. C. Wyeth, detail of an illustration for Paul Creswick’s Robin Hood.

وفقا لمبدأ الوجهة العالمية للخيرات، فإنّ جميع الممتلكات الفائضة عن الحاجة هي من حقّ الفقراء. ولكن الصعوبة تكمن في تحديد ما هو فائض عن الحاجة حقا. إذ إنّ قلب الإنسان مخادع، وماهر في خداع النفس. وربما يكون من الأسهل على المجتمعات المتشاركة أن تحكم بشكل موضوعي في هذا الأمر أكثر من الأفراد. ولكن حتى في المجتمعات المتشاركة، يمكن للمرء أن يجد ما أطلق عليه ايبرهارد آرنولد Eberhard Arnold، مؤسس حركة برودرهوف للحياة المسيحية المشتركة، «أنانية جماعية.»

كانت تجربتي الخاصة في العيش في الحياة المسيحية المشتركة في الدير تجربة تحررية. وبما أني أتلقى كل ما أحتاجه من الدير، فلدي وقت كافٍ لتكريس نفسي للصلاة، وتعليم اللاهوت، والقيام بواجباتي الأخرى. ولكن لا بد لي من الاعتراف بأن روبن هود ربما يعارضني. ورغم أن ديرنا يحاول التخلي عن أكبر قدر ممكن من دخلنا، إلا أننا نحن الرهبان نعيش حياة مريحة إلى حد ما، مع طعام جيد وغرف دافئة. ويسرد القديس بنديكت الأشياء الضرورية التي يجب أن يتلقاها الراهب من رئيس الدير: قلنسوتان، وسترتان، وصنادل، وأحذية، وحزام، وسكين، وقلم، وإبرة، ومنديل، ولوح كتابة. وأخشى أنه إضافة إلى القلنسوة والسترة، لديّ معاطف وسترات وجوارب ومعدات تزلج، وما إلى ذلك. وقد أصبح لوح الكتابة الآن كمبيوتر محمول. ويتم منحي مرتبا شهريا لمصروف الجيب، لشراء الكتب والشوكولاتة وغيرها من الكماليات.

لكن بالطبع، سواء أوافق روبن هود علينا أم لم يوافق، فنحن ممتنون للأشياء الجيدة التي يعطيها الله. فالغرض الأساسي من الفقر الرهباني ليس احتقار العطايا التي وهبها الله للبشرية، ولكن أن نتماثل مع السيد المسيح. فهناك وقت للصيام والتكفير عن الذنوب، وهناك أيضا وقت للاحتفال، واستخدام خيرات الأرض للتعبير عن الفرح. ويقول الإنجيل: «لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: فِيهِ شَيْطَانٌ. جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ» (متى 11: 18-19).

كان على الرهبان السيسترسيين الأوائل تعلُّم هذا الدرس. ففي السنوات الأولى في دير سانت برنارد في كليرفو Saint Bernard’s monastery at Clairvaux، لم يكن الرهبان راغبين في تناول أي شيء لذيذ المذاق. ولكن عندما زارهم ويليام من تشامبو William of Champeaux، أسقف المدينة الفرنسية شالون سور مارن، علّمهم أن يقبلوا الطعام الذي يُقدَّم لهم مع الشكر، وقال: «سوف تكون آمنا في القيام بذلك، لأنه بفضل نعمة الله، أصبح من المناسب لك أن تستخدمه. ولكنك من ناحية أخرى، إذا كنت لا تزال مرتابا أو مخالفا، فسوف تقاوم الروح القدس، وتكون غير ممتن لنعمه.»

لقد كان روبن هود، في القصص الشعبية القديمة، يشتهر بالولائم السخية في الغابة. لذلك، فهو يتفق مع الأسقف ويليام حول هذه النقطة على الأقل.


الكاتب أدموند فالدشتاين Edmund Waldstein، راهب في دير الصليب المقدس Heiligenkreuz السيسترسي في النمسا.

هوامش

  1. قِنّ وجمعه أقنان، عبد كان أبواه مملوكين لأسياده.