ماذا يقول الإنجيل عن هذا الموضوع؟

لقد قال الله للناس في العهد القديم: «لاَ تقتُلْ.» ويسترسل يسوع المسيح في هذا الموضوع ليقول إنَّ الكلام الذي يقال وفيه كراهية هو كطعنات خنجر سامَّة. وكل من ينكر أن أخاه الإنسان لديه حقوق مساوية له، إنما هو قاتل في نظر يسوع. وكل من يذهب إلى الحرب، فإنه يعمل عكس وصية: «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ.» (راجع متى 5: 43-48)


قال يسوع قبل مماته إنه سيُسَلَّم لأيدي الذين بيدهم السُّلطات، كلٍّ من السُّلطات الدينية والحكومية. فكان عليه أن يستسلم لسُلطتهم دون أيِّ محاولة للدفاع عن نفسه. ولَمَّا سأله تلميذاه: «يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ ...؟ فَالْتَفَتَ وَانْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا!» (لوقا 9: 54-55) فقد نسيتما الروح القدس! فقد نسيتما الروح القدس! وقد نسيتما القضية، وقد نسيتما أسمى دعوة إلهية لكما. ففي اللحظة التي تتناولان فيها مسألة القوة بدلاً من المحبة، فإنكما بهذا تتركان الروح القدس، حتى لو تُنزِلان نارًا سماوية، أو برقًا سماويًّا، أو عجائب سماوية.


بِاسْمِ يسوع المسيح نستشهد ولن نقتل. فهذا ما يأخذنا إليه الإنجيل. فإذا أردنا أن نتبع المسيح اِتِّباعًا حقًّا، وجب علينا أن نعيش مثلما هو عاش، ونموت مثلما هو مات. ولكن الأمور لن تتضح لنا بجلاء ما لم نستوعب مدى الحديَّة والقطعية التي في كلمات يسوع التالية: «لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ.» إذ قال المسيح:

لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ. (لوقا 16: 13)

إنَّ الهُراء اللاهوتي الذي خرج من هناك (من جامعة توبنغن الألمانية Tübingen) يصعب احتماله. فكانت هناك شابة مُتديِّنة (طالبة في قسم اللاهوت)، وقفت ذات مرة وقالت: «قال يسوع: ‹لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا.›» فأجبتها: أنا مستغرب من استعمالك لهذا الكلام في سياق الموضوع الذي نتكلم عنه بشأن تحريم استعمال السلاح بالنسبة إلى المسيحي. فلا أفهم ما تقصدينه. لأن يسوع كان يتكلم هنا عن العلاقة بين الكَنَّة (زوجة الابن) التي كانت تريد أن تتبع يسوع، وبين الحماة (أم زوجها) التي لم تخترْ طريق التلمذة للمسيح. أتقصدين بأن يسوع كان يعني أن الكَنَّة عليها أن تقتل حماتها؟! فلنقرأ النص الإنجيلي لمعرفة سياق الموضوع:

لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا. فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالاِبْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ. مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا. (متى 10: 34–39)


لا يمكن لأيِّ شخص سمع الدعوة الواضحة لروح يسوع المسيح أن يلجأ إلى العنف من أجل الحماية. فقد نبذ يسوع كل حقٍّ وكل دفاعٍ. فيقول الإنجيل:

أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تُحَارِبُ النَّفْسَ، وَأَنْ تَكُونَ سِيرَتُكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ حَسَنَةً، لِكَيْ يَكُونُوا فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرٍّ يُمَجِّدُونَ اللهَ فِي يَوْمِ الاِفْتِقَادِ، مِنْ أَجْلِ أَعْمَالِكُمُ الْحَسَنَةِ الَّتِي يُلاَحِظُونَهَا. فَاخْضَعُوا لِكُلِّ تَرْتِيبٍ بَشَرِيٍّ مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ. إِنْ كَانَ لِلْمَلِكِ فَكَمَنْ هُوَ فَوْقَ الْكُلِّ، أَوْ لِلْوُلاَةِ فَكَمُرْسَلِينَ مِنْهُ لِلاِنْتِقَامِ مِنْ فَاعِلِي الشَّرِّ، وَلِلْمَدْحِ لِفَاعِلِي الْخَيْرِ. لأَنَّ هَكَذَا هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ أَنْ تَفْعَلُوا الْخَيْرَ فَتُسَكِّتُوا جَهَالَةَ النَّاسِ الأَغْبِيَاءِ. كَأَحْرَارٍ، وَلَيْسَ كَالَّذِينَ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُمْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ، بَلْ كَعَبِيدِ اللهِ. أَكْرِمُوا الْجَمِيعَ. أَحِبُّوا الإِخْوَةَ. خَافُوا اللهَ. أَكْرِمُوا الْمَلِكَ. أَيُّهَا الْخُدَّامُ، كُونُوا خَاضِعِينَ بِكُلِّ هَيْبَةٍ لِلسَّادَةِ، لَيْسَ لِلصَّالِحِينَ الْمُتَرَفِّقِينَ فَقَطْ، بَلْ لِلْعُنَفَاءِ أَيْضًا. لأَنَّ هَذَا فَضْلٌ إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ اللهِ يَحْتَمِلُ أَحْزَانًا مُتَأَلِّمًا بِالظُّلْمِ. لأَنَّهُ أَيُّ مَجْدٍ هُوَ إِنْ كُنْتُمْ تُلْطَمُونَ مُخْطِئِينَ فَتَصْبِرُونَ؟ بَلْ إِنْ كُنْتُمْ تَتَأَلَّمُونَ عَامِلِينَ الْخَيْرَ فَتَصْبِرُونَ، فَهَذَا فَضْلٌ عِنْدَ اللهِ، لأَنَّكُمْ لِهَذَا دُعِيتُمْ. فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكًا لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ. الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ، الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ. (1 بطرس 2: 11–23)

لقد اختار يسوع المسيح أوضع طريق ليسير فيه. وها هو قد وضعنا أمام الرهان: أن نتبعه بالأسلوب نفسه الذي سار فيه، ولا نزيغ عنه أبدًا، لا يمينًا ولا يسارًا. أتعتقدون أنتم حقًّا أنه يجوز لكم أن تسيروا سيرة مغايرة لسيرة يسوع المسيح، وتؤيدون مواضيع حاسمة مثل المُلكية الخاصة، واستخدام العنف، ومع ذلك تدَّعون بأنكم تلاميذه؟


الحرب باسم الله

من الممكن لأيِّ عسكري أو شرطي أن يحمل سلاحه ويتوجه إلى الحرب باسم الله، ولكن ليس باسم المسيح. وقد أشرتَ أنتَ قبل قليل إلى الحرب التي قادها النبي هوشَع على أريحا في العهد القديم (أي بمعنى قبل مجيء المسيح)، وهذا صحيح. ويمكن ضرب أمثلة عديدة عن الحروب التي، ومن باب الدفاع عن هوية البلد، حَمَلتْ فيها الحكومات السلاح باسم الله تماشيًا مع العهد القديم. إلاَّ أننا يجب علينا أن نميِّز بوضوح بين العهد القديم والعهد الجديد (أيْ بمعنى عهد يسوع المسيح). مثلما يبيِّن الإنجيل:

 وَأَمَّا رَأْسُ الْكَلاَمِ فَهُوَ أَنَّ لَنَا رَئِيسَ كَهَنَةٍ مِثْلَ هَذَا، قَدْ جَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ الْعَظَمَةِ فِي السَّمَاوَاتِ، خَادِمًا لِلأَقْدَاسِ وَالْمَسْكَنِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي نَصَبَهُ الرَّبُّ لاَ إِنْسَانٌ. لأَنَّ كُلَّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ يُقَامُ لِكَيْ يُقَدِّمَ قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ. فَمِنْ ثَمَّ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا أَيْضًا شَيْءٌ يُقَدِّمُهُ. فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الأَرْضِ لَمَا كَانَ كَاهِنًا، إِذْ يُوجَدُ الْكَهَنَةُ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَ قَرَابِينَ حَسَبَ النَّامُوسِ، الَّذِينَ يَخْدِمُونَ شِبْهَ السَّمَاوِيَّاتِ وَظِلَّهَا، كَمَا أُوحِيَ إِلَى مُوسَى وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَصْنَعَ الْمَسْكَنَ. لأَنَّهُ قَالَ: «انْظُرْ أَنْ تَصْنَعَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ الْمِثَالِ الَّذِي أُظْهِرَ لَكَ فِي الْجَبَلِ.» وَلَكِنَّهُ الآنَ قَدْ حَصَلَ عَلَى خِدْمَةٍ أَفْضَلَ بِمِقْدَارِ مَا هُوَ وَسِيطٌ أَيْضًا لِعَهْدٍ أَعْظَمَ، قَدْ تَثَبَّتَ عَلَى مَوَاعِيدَ أَفْضَلَ. فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الأَوَّلُ بِلاَ عَيْبٍ لَمَا طُلِبَ مَوْضِعٌ لِثَانٍ. لأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ لاَئِمًا: «هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ، حِينَ أُكَمِّلُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا. لاَ كَالْعَهْدِ الَّذِي عَمِلْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا فِي عَهْدِي، وَأَنَا أَهْمَلْتُهُمْ يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنَّ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَعْهَدُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ، يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلَهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا. وَلاَ يُعَلِّمُونَ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلاً: اعْرِفِ الرَّبَّ، لأَنَّ الْجَمِيعَ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ. لأَنِّي أَكُونُ صَفُوحًا عَنْ آثَامِهِمْ، وَلاَ أَذْكُرُ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ.» فَإِذْ قَالَ «جَدِيدًا» عَتَّقَ الأَوَّلَ. وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الاِضْمِحْلاَلِ. (عبرانيين 8: 1—13)

فإننا ما دمنا مدعوين من قِبَل يسوع المسيح، فنحن من أبناء العهد الجديد، وما دام لنا فكرٌ حربيٌّ، فنحن لا نزال في العهد القديم. فيجب علينا أن نقرر: أنحن مدعوون إلى العهد الجديد أم إلى العهد القديم؟

أما دعوتنا هنا في الحياة المسيحية المشتركة فهي دعوة يسوع المسيح، التي تعني أننا لا نحيا إلاَّ لأجل المحبة والسلام.

سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ. سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هَكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ. (متى 5: 38–48)

(هذه الفقرة هي حديث بين ايبرهارد آرنولد وأحد الضيوف).


أحِبُّوا أَعداءَكُم

فيما يتعلق بحادثة سلبٍ مُسلَّحٍ لاثنين من إخواننا، اللذين كانا في طريقهما من البنك إلى أحد مجتمعاتنا المسيحية لدفع رواتب أجور العمال الذين كانوا يشتغلون عندنا، كُنَّا نستطيع أن نتصرف بإحدى الطريقتين المبيَّنتين أدناه، اللتين هما على طرفي نقيض، غير أن كلتا الطريقتين تُعتبران خيانة للقضية التي نحيا لأجلها. فإحدى هاتين الطريقتين هي باستعمال القوة للدفاع عن النفس، سواء كانت من قِبَل الأخوين مباشرة، أو باستدعاء قوات الشرطة، أو السُّلطات المدنية على الفور. والطريقة الأخرى التي تنقلنا من نقيض إلى نقيض، هي أن نختار حماية المجرم نفسه من مخالب السُّلطات، وعدم التبليغ عنه وعن السرقة، الأمر الذي كان سيعني أننا ندعم الجريمة في هذه الحالة. أمَّا نحن فلم نلجأ إلى أيٍّ من هاتين الطريقتين، ولكننا دعونا إلى اجتماع عام مع جميع النجارين وغيرهم من العمال (الذين سُرقت رواتبهم) لطرح الموضوع أمامهم، لكيلا نصبح مذنبين في التغاضي عن الجريمة.

فيجب علينا أن نحتج بشدة على هذا السلب المُسلَّح. إذ إنَّ كنيسة الله مُلزَمَة بالاحتجاج علنًا على هذا الظلم. وينبغي أن تكون هذه الحادثة مثالاً في خدمة إعلان بشارة الملكوت، وأيضًا شاهِدًا لعدالة الكنيسة، وشاهِدًا للأُخُوَّة، ولمحبة الأعداء.


مما لا شك فيه أن المرء الذي يضرب غيره (في مشاجرة على سبيل المثال) فإنَّ ذلك دليل على أنه غير قادر على رؤية أيِّ شيء صالح فيه عند تلك اللحظة، أو ربما لا يرى سوى شيء قليل من الصلاح. ونعلم بأن ذلك يصُحُّ كثيرًا في أوقات الحروب. فيجب تأجيج نار روح الحرب، بالمبالغات والأكاذيب، لكي يرى الشعب خيرًا قليلاً لدى غيره من الأعداء. أمَّا يسوع المسيح فما كان له أن يسقط فريسة لخدعة كهذه مطلقًا. فقد كان يرى صورة الله في كل إنسان دائمًا، صورة غير كاملة، وغالبًا مشوشة، لكنها موجودة في كل إنسان، كما يشهد الكتاب المقدس:

 فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. (تكوين 1: 27)


كيف سنخوض هذه المعركة؟ سنخوضها وفقًا لروح الملكوت الآتي، وليس بأيِّ أسلوب آخر. فيجب علينا القتال في هذه المعركة بمحبة. فإنِّ سلاح المحبة هو السلاح الوحيد الذي نملكه. ولا يتغير موقفنا هذا سواء تجابهنا مع شرطي يمتطي فرسًا، أو مع شخص ينتمي لنقابة معينة، أو التقينا مع محافظ، أو أمير، أو رئيس حزب، أو حتى مع رئيس دولة الرايخ (أيْ الإمبراطورية الألمانية). فيتحتَّم علينا محبتهم، ولا يسعنا تقديم شهادة عن الحقيقة إليهم إلاَّ عندما نحبهم محبة حقيقية. وهذا ما نحيا لأجله نحن هنا في الحياة المسيحية المشتركة.


لقد علَّمتنا الحياة وجود نوعين من العلاقات بين البشر، وكلاهما يؤثران فينا تأثيرًا كبيرًا. فالنوع الأول هو علاقة الصداقة؛ فنشعر في علاقة الصداقة بحرارة مع الذين لديهم مشاعر مماثلة للدوافع العميقة والمقدسة التي في داخلنا، ولدعوتنا التي دعانا إليها المسيح. والنوع الآخر هو علاقة العداء؛ فهي تُحرِّك أعماقنا بالقدر نفسه. فإنِّ الذين يعارضون أسلوب حياتنا المشتركة، إضافة إلى أعدائنا الشخصيين، يهزُّوننا روحيًّا، ويضعون أمامنا أقدس الأمور في حياتنا موضع الرهان.


لا يهمُّ مَنْ هم أعداؤنا؛ فالله يحب كل واحد فيهم، ولا يحقُّ لنا أن نصدر أحكامًا ختامية عليهم وندينهم. ورغم أننا يجب أن ننبذ الشرَّ الذي اقترفوه، ولكنهم يبقون أعداء، الذين نحبهم بصدق.


ينبغي أن نكون شاكرين لأعدائنا! لأننا وجدنا أن وصية يسوع المسيح: «أحِبُّوا أَعداءَكُم،» ليست فيها مغالاة أو مبالغة أبدًا. ونفهم أن وصية الروح القدس، «أحِبُّوا!» تسري على كل من الأصدقاء والأعداء على حدٍّ سواء.

وإذا التقينا بصديق أو عدو، فإنِّ ذلك يُحرِّك صميم قلوبنا. فعندما نمتلئ من روح المسيح، فإنِّ كل ما يُحرِّك قلوبنا، لن يُوَلِّد فينا سوى رنين واحد، وسوى صدى واحد، ألا وهو: ردٌّ مليء بالمحبة!


نحن نعلم بأننا محاطون بأعداء للإيمان المسيحي. وفي هذه الأوقات، فإنَّ سِرَّ الغُفران مطلوب أكثر من ذي قبل، لأن الحقد الملتهب في صدر العدو يتحدانا لنواجهه بموقف معاكس. فأعداؤنا بالتحديد هم الذين يجب علينا محبتهم، وذلك بأن يكون لنا رجاء لهم، وتفهُّم لهم، عالمين أنهم – برغم عماهم – لديهم شرارة إلهية في داخلهم تحتاج إلى تأجيج.

ويتعيَّن على محبتنا لأعدائنا أن تكون حقيقية جدًا بحيث تصل إلى قلوبهم وتمسُّها. لأن هذا ما تفعله المحبة. وعندما يحصل ذلك، سنتمكن من إيجاد الشرارة المخفية التي من عند الله في قلوب أعدائنا، حتى لو كانوا من أكبر الخطأة. لذلك، ومن هذا المنطلق، يجب علينا أن نغفر لأعدائنا أيضًا، مثلما سأل يسوع المسيح الله الآب الغُفران للجنود الذين صلبوه على الصليب، قائلاً:

 يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ. (لوقا 23: 34)


سيف الروح القدس هو ليس سيف الغضب

يختلف سيف الروح القدس الموهوب للكنيسة اختلافًا كُليًّا ومن جميع النواحي عن سيف السُّلطات الحكومية.

 وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ، وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ. (أفسس 6: 17)

فقد سلَّم الله السيف الدنيوي، الذي هو سيف غضبه، إلى أيادي غير المؤمنين.فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ، لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ. (رومة 13: 3–4)

ويجب على الكنيسة أن لا تستعمل السيف. إذ إنَّ الكنيسة يجب أن لا يسيِّرها سوى روح واحد هو روح المسيح. فقد سحب الله روحه القدوس من غير المؤمنين، لأنهم لم يطيعوه. وأعطاهم الله عوضًا عن ذلك سيف الغضب، أي بمعنى الحكومة الدنيوية بقوتها العسكرية. غير أن المسيح نفسه مَلِكٌ في الروح، ولا يَشهَرُ خُدَّامه أيَّ سيفٍ في وجه الآخرين غير سيف الروح القدس.


ومع ذلك، لا يجوز لنا الذهاب إلى أيِّ شرطي أو جندي لنقول له: «ألقِ سلاحك الآن، وامضِ في طريق المحبة والتلمذة للمسيح.» فلا يحقُّ لنا فعل ذلك. ولا يجوز لنا فعل ذلك إلاَّ عندما يضع الروح القدس كلمة حيَّة في قلوبنا، قائلاً: «جانت اللحظة الحاسمة لإخبار هذا الرجل.» حينئذ نتكلم معه، ويخبره الله في اللحظة نفسها. فما نخبره يجب أن يتفق مع ما يزرعه الله في قلبه في ذات الوقت. فلو استوعبنا هذه النقطة، أدركنا بأننا لا يمكننا الدخول في حديث عميق مع أيِّ شخص كان، وفي أيِّ وقت كان. إذ إنِّ الإيمان ليس موهوبًا للجميع، كما أنه ليس من اهتمامات كل إنسان في كل الأوقات. فيجب علينا أن ننتظر الساعة التي يحددها الله.


في زمن الإصلاح الكنسي، في القرن الميلادي السادس عشر في أوروبا، احتج إخواننا (الإخوة الهوتَريون Hutterians) بالآلاف على سفك الدماء بشتى أنواعه. وكان زمنًا بالغ الأهمية، لأن الهمجية وسفك الدماء كانا قد وصلا إلى درجات شنيعة لم يكن لها مثيل إلاَّ في زمننا المعاصر. أمَّا هذه الحركة القوية للإخوة الهوتَريين فكانت واقعية بالتأكيد. لأن أفرادها لم يؤمنوا مطلقًا بأن السلام العالمي أو ربيع الدنيا كان على وشك الحدوث. بل على العكس، إذ كانوا يؤمنون بأن يوم الحساب قريب جدًا. فكانوا يتوقعون أن تتعظ الحكومات من تمرُّد الفلاحين على الظلم آنذاك، لكي تتخذه تحذيرًا إلهيًّا شديد اللهجة.

أمَّا أن يكون الإنسان على وعي بأن العالم سيستمر في استعمال السيف دائمًا، فهذا وعي واقعي وصحيح. ولكن يجب أن تقترن هذه الواقعية باليقين من أن:

يسوع المسيح بريءٌ من أيِّ سفك دماء؛ فلا يمكنه أبدًا أن يكون جَلاَّدًا.
وذاك الذي أُعدِم على الصليب، لا يمكنه أبدًا أن يُعدِم أحدًا.
وذاك الذي طُعِن جسده بِحربةٍ، لا يمكنه أبدًا أن يطعن جسد أحدٍ أو يؤذيه.
فهو لا يقتلُ أحدًا أبدًا؛ أمَّا هو فمقتول.
وهو لا يصلبُ أحدًا أبدًا؛ أمَّا هو فمصلوب.

ويقول الإخوة الهوتَريون (Hutterians) إنَّ محبة يسوع هي محبة المعدوم لقاتليه؛ إذ إنَّ يسوع لا يمكنه أبدًا أن يكون قاتلاً أو جَلاَّدًا.


أتكفي معارضة الحرب والعنف وحدها (Pacifism)؟

أنا أعتقد حقًا أنه قد قيل الكثير من الأشياء الحسنة بشأن قضية السلام واتحاد الأمم. ولكنني لا أعتقد أن هذا يكفي. فإذا شعرتَ أنت بضرورة إجراء محاولة لتجنب أو لتأجيل حرب أوروبية واسعة النطاق، فلا يسعنا إلاَّ أن نبتهج كلنا لذلك. ولكن ما يجعلنا نضطرب هو: أتنجح كثيرًا في معارضتكَ لروحية الحرب الموجودة الآن، وفي هذه اللحظة بالذات، رغم عدم خوض الدولة أي حرب؟

فعندما يُقتل أكثر من ألف شخص ظُلمًا ودون أيِّ محاكمة في ألمانيا الهتلرية، كما حدث في 30 يونيو 1934م، أليست هذه حربًا؟
وعندما تُسلب الحرية من مئات الآلاف في معسكرات الاعتقال، وتُنتزع منهم كرامتهم الإنسانية، أليست هذه حربًا؟
وعندما يُفنى الآلاف إلى سيبيريا ليجمدوا حتى الموت أثناء قيامهم بتقطيع الأشجار، أليست هذه حربًا؟
وعندما يموت جوعًا الملايين في الصين وروسيا، بينما يبلغ المخزون الاحتياطي للقمح في الأرجنتين وغيرها من الدول ملايين الأطنان، أليست هذه حربًا؟
وعندما يَرْذُلْنَ آلاف النساء أجسادهنَّ في البغاء، وتَفسَدُ حياتَهن من أجل المال، أليست هذه حربًا؟
وعندما يُقتل ملايين الأطفال بالإجهاض سنويًّا، أليست هذه حربًا؟
وعندما يُجبر الناس على أن يشتغلوا كالعبيد، لأنهم لا يتمكنون من توفير الخبز والحليب لأولادهم إلاَّ بشق الأنفُس، أليست هذه حربًا؟
وعندما يسكن الأثرياء في بيوت واسعة وفارهة ومحاطة بالحدائق، بينما توجد عائلات في مناطق أخرى ليس لها ولو غرفة واحدة يسكنون فيها كلهم، أليست هذه حربًا؟
وعندما يَفترِض أحد الأشخاص أن من حقِّه تأسيس حساب مصرفي ضخم جدًا، له لوحده، في حين أن غيره نادرًا ما يكسب ما يكفيه لسد حاجة الضروريات الأساسية للحياة، أليست هذه حربًا؟
وعندما تَقتلُ السيارات ستين ألف نفس سنويًّا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تسير بالسرعة التي تحلو لأصحابها، أليست هذه حربًا؟


لا يمكننا تمثيل ذلك النوع من المبدأ السلمي – معارضة الحرب والعنف Pacifism – الذي يدَّعي بأنه لن تُشَنَّ حرب بعد الآن. فهذا الادعاء ليس صحيحًا؛ فالحرب قائمة لغاية يومنا الحاضر.

 ولا نؤيد ذلك النوع من المبدأ السلمي الذي يقول إنه يجب على الدول العظمى أن يكون لها نفوذ كبير جدًا على غيرها لكي نتخلص من الحروب.
ولا ندعم القوات المسلحة للأمم المتحدة التي يريدون بها إخضاع الشعوب الصعبة المراس تحت المراقبة.
ولا نوافق على مبدأ سلمي يتشبَّث قادته بالجذور المُسبِّبة للحروب – كالممتلكات والرأسمالية – ويتصوَّرون أنه يمكن تحقيق السلام في خضم الظلم الاجتماعي والتعددية الطبقية.
ولا نوافق على مبدأ سلمي يحاول إبرام معاهدة سلام، بينما تتحارب الدول على أرض الواقع بعضها مع بعض.
ولا نؤمن بمبدأ سلمي يُدار من قِبل رجال أعمال يسحقون الذين يتنافسون مع مصالحهم العملية.
ولا نؤمن بمبدأ سلمي لو كان ممثليه لا يعيشون أيضًا بسلام ومحبة مع زوجاتهم.
ولا نؤمن بمبدأ سلمي من أجل المنافع التي ستعود علينا أو الفوائد التي سينتفع منها بلدنا أو أعمالنا التجارية.

فلَمَّا كُنَّا لا نؤمن بالأنواع المتعددة جدًا لهذا المبدأ السلمي، كان من الأفضل أن لا نستعمل هذه التسمية بتاتًا. غير أننا في الحقيقة أصدقاء للسلام الحقيقي، ونود أن نساهم في إحلال السلام. فقد قال يسوع: «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ!» (متى 5: 9) أمَّا إذا أردنا السلام حقًا، فمن الواجب علينا أن نمثِّله في كل مجال من مجالات الحياة. لذلك، يجب أن لا نفعل شيئًا يتناقض مع المحبة. وهذا يعني أنه لا يحقُّ لنا قتل أيِّ إنسان؛ ولا يحقُّ لنا إيذاء أحدٍ في مجال العمل ومصلحة العمل؛ ولا يحقُّ لنا الموافقة على أسلوب الحياة الذي يعطي الطبقة العاملة مستوى معيشي أدنى من خريجي الجامعات.


لا نجد أيَّ مكان قال فيه يسوع المسيح ولو كلمة واحدة تدعم المبدأ السلمي من أجل الفوائد أو المنافع التي ستعود على فاعله. ولكننا وجدنا في يسوع أكبر سبب وجداني يستحق أن نحيا لأجله حياة كاملة من اللاعنف، وعدم إيقاع أيِّ جرح أو أذى بأخينا الإنسان على الإطلاق، لا جسميًّا ولا روحيًّا. فمن أين جاء هذا التوجيه الروحي العميق الذي يعطينا إياه يسوع المسيح بعدم قتل أيِّ إنسان أو إيذائه؟ إنَّ جذوره كامنةٌ في أعمق مكان في كيان الإنسان، التي يشعر بها بعضنا في كيان البعض؛ فيوجد أخٌ أو أختٌ في داخل كل إنسان، ويوجد أيضًا شيءٌ من نور الحقيقة في داخله، إضافة إلى نور الله وروحه القدوس. ويقول الإنجيل:

 مَنْ يُحِبُّ أَخَاهُ، يَثْبُتُ فِي النُّورِ، وَلَيْسَ فِيهِ عَثْرَةٌ. (1 يوحنا 2: 10)

هناك من يسيء فهم يسوع كليا ويعتقد بوجود نوع من الرخاوة التي تنقصها الرجولة فيه. إلّا أنّ كلامه يثبت عدم صحة هذا الاعتقاد؛ فيقول يسوع أنّ طريقه سيؤدي بنا إلى أشرس المعارك، وليس إلى نزاعات روحية شديدة فحسب بل حتى إلى الموت الجسدي. والذي يبرهن على ذلك هو موته ومواقفه الاستشهادية كلها – فكان يواجه قوى القتل والكذب بجرأة لا تعرف الخوف وبكامل الثقة واليقين، كما يشهد لنا الإنجيل:

قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ.» وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ. (لوقا 22: 42-44)


اصبُروا على أخطاء الآخرين، ولكن لا تقترفوها

يقول القديس بولس الرسول: «كلوا ما يُقدَّم لكم، ولا تسألوا من أين جاء هذا، حتى لو كان هناك احتمال وجود علاقة له بتقاليد وثنية بغيضة.» فإنَّ أهم ما في الموضوع هو أنكم لم تشتركوا في الوثنية. (راجع 1 كورنثوس 10: 25–31) وهذا أسلوب رائع للنظر في المشكلة...

فلو كان يسوع في السجن، فسيكون استمراره في الإضراب عن الطعام أمرًا غير وارد بِالمرَّة. لأن ذلك لا يتطابق مع طريقه. ولو أُودِعنا نحن في السجن، وقَدَّمتْ لنا السُّلطات وجبات طعام يومية، فإنه ينبغي أن نقبلها كالأطفال. أمَّا لو طُلِب مِنَّا في السجن القيام بعمل يخدم الجيش، على سبيل المثال، سواء كانت خدمة مباشرة أو غير مباشرة، فمن الواجب علينا رفضه عندئذ.

فالأمر واضح إذن أين يتعيَّن علينا وضع حدٍّ فاصلٍ. ويمكنني وضع الأمر بهذه الصيغة أيضًا: اصبُروا على أخطاء الآخرين، ولكن لا تقترفوها. ولو ترتب عليكم أن تعانوا من الظلم أو الإجحاف، فإنَّ واجبكم هو أن تبذلوا قصارى جهدكم لمعارضته بالطريقة التي عارض بها يسوع عندما صلَّى: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ.»


مما لا شك فيه أن الموت هو من أقوى أعداء الحياة. ولهذا نحن ضد قتل الناس. ثم إننا نعلم أنه إذا كان الشخص مُستعِدًا روحيًّا للحياة الأبدية، فلا يهم كثيرًا سواء توفي اليوم أو بعد ثلاثين سنة. ولكن الموت بحد ذاته مهول جدًا، ولا رجعة فيه، بحيث ليس لنا إلاَّ أن نولي سلطان الحياة والموت لله وحده.

لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «لِيَ النَّقْمَةُ، أَنَا أُجَازِي، يَقُولُ الرَّبُّ.» (رومة 12: 19)

أمَّا نحن، فحاشا لنا أن نتجاسر على تقصير عمر أيِّ إنسانٍ. إذ إننا نرفض ارتكاب جريمة كهذه بِحقِّ حياة خلقها الله. فإذا آمنَّا بأن الموت هو العدو الأخير، وبأن المسيح تغلَّب عليه، فلا يمكننا الموافقة على خدمة الموت بواسطة قتل الناس.


 هذه المقالة مقتطفة من كتاب «ثورة الله»