من المفروض أن يكون مجتمع الحياة المشتركة للكنيسة كمدينة على تَلٍّ، حيث يشعّ النور من شبابيكها إلى الخارج، لكي يدرك كل من يراها أن هناك مدينة متّحدة، وكنيسة متّحدة! (راجع متى 5: 14) وهذه هي دعوة المسيح في عصرنا اليوم، أي بمعنى أن تتجسّد كنائس الحياة المشتركة إلى كيان واقعي ملموس، ليشعّ نورها إلى العالم، ذلك النور الذي يعكس الوحدة الكاملة والعدل والسلام والفرح في ظلَّ الروح القدس.


الاتفاق بالإجماع ممكن

نحن لسنا متفائلين بشأن السياسة العالمية. غير أننا لدينا إيمان راسخ بأن الكنيسة بإمكانها أن تقدم شهادة عن الوحدة وبأن هذه الشهادة هي أحسن خدمة نقدمها للعالم. فالحياة المشتركة باتفاقها التام ممكنة! وهي ممكنة بفضل الإيمان بالله، وبالمسيح، وبالروح القدس. وهذا ما تدور حوله حياتنا.


إن الاتفاق بالإجماع المتماسك وغير المتزعزع أمر لا يمكن الاستغناء عنه في أي شيء تأخذه على عاتقها أي جماعة تعيش حياة مسيحية مشتركة، سواء كان بناء بيت أو أي شيء آخر. ولا يكون هذا الإجماع ممكنا إلا بفضل إيماننا بأن الله يستعمل روحه القدوس، ليقول الشيء نفسه لكل فرد منّا. أما أسلوب الإقناع المتبادل فلا يقدر على تحقيق ذلك الإجماع. إذ إن الله هو الذي يقوم بذلك ويخلق الوحدة فينا، حينما يتحدث إلينا بواسطة الروح القدس. ولنعلم بأن عمل الروح القدس لا يقتصر على أن يضمن لنا خلاصنا ويعطينا اليقين – بأن الله قَبَلَنا – فحسب بل يجعلنا كلامه أيضا متّحدين حتى في الأمور التي تسمى «تفاهات» أو أمورا صغيرة في حياتنا المسيحية كجماعة. إذ إن الروح القدس يهدينا باستمرار للخطوة العملية الصحيحة في اتخاذ قرار لشراء قطعة أرض زراعية على سبيل المثال أو أي شيء آخر من هذا القبيل، مهما كان. فالاتفاق بالإجماع أول علامة.

أما العلامة الثانية فهي موضوع العمل على وجه التحديد. فنرى أن الناس عادة يشتغلون لإعالة أسرهم، بدافع غريزة طبيعية وسليمة. ولكن في أكثر الأحيان لا يكون السبب الوحيد للوظيفة هو لكسب لقمة العيش. فنجد انعدام وجود أية علاقة ما بين حياتهم وأعمالهم وغياب التعاون الأخوي مع الآخرين. أما نحن فنجاهد ضد هذه الظاهرة. فمثلما ينبغي أن يكون هناك انسجام بين الناس، فينبغي أن يكون هناك أيضا انسجام وتوافق بين العمل الذي يؤديه الشخص ودعوته (أو دعوتها) الروحية. (راجع كولوسي 3: 17، 23) ويجب تكريس كل الطاقات وكل المواهب لهذا العمل، ضمن إطار روح الكنيسة ولا يتعارض معه.


أخوية وليست تماثلية

لن نحصل على اتفاق بالإجماع في قناعاتنا ما لم يكن لدينا قلوب راغبة وصادقة ومنفتحة. ولم ننزعج مطلقا عندما جاء الناس إلينا بقناعات تختلف عن قناعاتنا. فبالعكس، فهذا أصلا له فائدة أكبر مما لو لم تكن لدينا فرصة لسماع أفكار معارضة. ونعتقد أن التبادل الحر للأفكار يمكن له أن يساعد الناس على إدراك الحقيقة، والحمد لله على فضل الروح القدس الذي لا ينشأ عنّا نحن البشر. فلا يهم في هذه الحالة مدى التعددية التي في آرائنا، لأننا سوف نتّحد كلنا معا ونتفق بفضل الحقّ السامي. فسوف يجلب كل فرد منّا تلك العناصر الصحيحة من مخزون قناعاته السابقة، وسيعيد اكتشافها من جديد. وكلما زاد التنوّع في خلفياتنا، أغنَت ثماره حياتنا أكثر وأكثر. ولا يمكن أبدا الحصول على قناعة موحّدة وغير مزيفة بين الناس بواسطة إكراه الشخص على الامتثال والموافقة على الرأي. فلا يوجد غير الروح القدس بقدرته على الإقناع الروحي الذي يأخذ الناس ويقودهم من حرية الرأي إلى الوحدة الحقيقية.


ما أروع أن يتخذ الناس قرارا بالإجماع. فإنه أمر معاكس تماما لنهج اتخاذ القرارات على أساس الأغلبية، فهذا النهج لا يفرز الوئام بين الأغلبية والأقلية. أما الإجماع فيعني أن لا أحد يختلف مع القرار أو يعارضه، حتى ولا في السرّ. وها هو الإنجيل يدعونا إلى ذلك:

أناشِدُكُم أيُّها الإخوةُ، باسمِ ربِّنا يَسوعَ المَسيحِ، أنْ تكونوا جميعًا مُتَّفِقينَ في الرَّأْيِ وأنْ لا يكونَ بَينَكُم خِلافٌ، بَلْ كونوا على وِفاقٍ تامٍ، لكُم رُوحٌ واحدٌ وفِكرٌ واحدٌ. (1 كورنثوس 1: 10)


عندما يؤمن الناس بالوحدة، فسوف تخلق الوحدة رابطة قوية جدا فيما بينهم. ومن الحقائق المؤسفة أن بعض الذين يُسمون أنفسهم مسيحيين هم بالحقيقة مختلفون في آرائهم ومتفرِّقون وغير متّحدين وغير متضامنين، وهذا ليس في كُبريات الكنائس المختلفة في العالم فحسب بل أيضا بين أولئك الذين يحاولون أن يكونوا مسيحيين حقيقيين. ولن تُحَلّ المشكلة أبدا لو قررنا التزام الصمت حيال هذه المواضيع التي لا يتفق عليها الناس تماما. فغالبا ما يقول المرء: اليوم يوم عبادة، يوم الذهاب إلى الكنيسة، وخدمة الله؛ أما غدا فلي وظيفتي الخاصة بي وحياتي الشخصية وأسرتي (أي أنه يعيش في عالمين منفصلين). فكيف سيلقى مثل هذا الشخص وحدة وتناغما داخليّا وعدم الإحساس بالانقسام الداخلي في نفسه، دعْ عنك الوحدة مع الآخرين؟

أما الوحدة الكاملة فليس هناك ما يتفوّق عليها. فهذا هو سرّ الله – الفرح والوحدة في روحه القدوس الخلّاق. لذلك، فالسؤال الآن هو: أنؤمن حقا بالله؟ أنؤمن حقا بأنه سينجح وينتصر في نواياه على تحقيق الوحدة؟ أنؤمن بأن الوحدة ستتحقق هنا والآن، لو لم نَبتَغِ سوى الله وطريقه؟


ليست رابطة بشرية

ولما كان لَهَب من العالم الآخر يحلّ علينا فعلا فيمكننا أن نقول قولا قاطعا بأن التوصُّل إلى إجماع فكري لا يقنعنا بعد الآن. ولا يكفي أن نحدد لنا هدفا مشتركا معينا واستخدام جميع ما لدينا من قوة الإرادة البشرية لبلوغ ذلك الهدف؛ ولا يكفي أيضا أن تهزّنا تجربة نعيشها معا على صعيد المشاعر. فإننا نعلم بأن شيئا مختلفا تماما يجب أن يحلّ علينا ليرفعنا من هذا المستوى البشري الصِرف ويخلِّصنا منه.


مثلما تشعّ أشعة الشمس باستمرار على كرتنا الأرضية، ومثلما يُنزِلُ البرق من السُّحب نورا ونارا، فهكذا الحال معنا أيضا، فيجب أن يندلع عنصر جديد في وسط مجامعنا بحيث لا نكون نحن مصدره. فلا يأتي هذا العنصر من أنبل مشاعرنا ولا من أقدس الأشياء في داخلنا. فلابد أن يكون شيئا يغمرنا بفضله، وشيئا لا يمكننا تقديمه بعضنا إلى بعض. وما لنا إلا أن نشهد لحقيقة الأمر وهي أن هذا العنصر الجبار يجعلنا واعيين بوحدتنا وينعم علينا بانسجام كامل في الفكر والإرادة والمشاعر. (راجع أفسس 3: 14–19)


قد يتساءل المرء: كيف يمكن للكنيسة السماوية، أي كنيسة عالم السماوات، أن تعمل في حياة الناس هنا على الأرض؟ إن الجواب على هذا السؤال هو جواب واحد فقط يقدمه لنا الإيمان، ألا وهو: إن كنيسة يسوع المسيح تنزل إلى الأرض بواسطة الروح القدس؛ وما يزال الروح القدس يعمل في الكنيسة باستمرار بالأسلوب نفسه الذي عمل به في أورشليم عندما حلّ أول مرة على جميع الناس الذين كانوا هناك. فأينما تنزل الكنيسة بالواقعية التي يجلبها الروح القدس، يحصل تأثير اجتماعي على حياتها بحيث لا يختلف تغيير الحياة عما حدث في يوم العنصرة في أورشليم عند انبثاق الكنيسة الرسولية الأولى بحياتها المشتركة.


الروح القدس يجمِّع الناس

إن الله، الذي خلق كل شيء، الذي بدونه لم يوجد أي شيء، أرسل الروح القدس ليحلّ على الأرض ليشمل جميع الناس بخيره. ويريد هذا الروح تجميع الناس كلهم، وضمّهم بعضهم إلى بعض. وقد وُضِع يسوع في هذا العالم بواسطة هذا الروح ليعيش بين الناس، وشهد يسوع بدوره للقوة التجميعية للروح القدس، الذي أراد تجميع شعب إسرائيل عدة مرات في مراحل تاريخية متعددة، فقال المسيح: «كَم مَرَّةٍ أرَدتُ أنْ أجمَعَ أبناءَكِ، مِثلَما تَجمَعُ الدَّجاجةُ فِراخَها تَحتَ جَناحَيْها، فما أردتُم.» (متى 23: 37) أما الروح القدس فقد أُنتُزِع من أولئك الذين رفضوا أن يُجَمِّعهم هذا الروح. وقد قُتِل يسوع بواسطة الروح التي تُفَرِّق، أي بواسطة القوّة التي تُقَسّم. فقد قال يسوع: «مَنْ لا يكونُ مَعي فهوَ علَيَّ، ومَنْ لا يَجمعُ مَعي فهوَ يُبدِّدُ.» (متى 12: 30)

ومع ذلك فقد عاد ذاك الحيّ إلى خاصَّته، أي إلى جماعة تلاميذه، قائلا لهم: «كما أرسَلَني ألآبُ أُرسِلُكُم أنا. قالَ هذا ونَفَخَ في وجوهِهِم وقالَ لهُم: خُذوا الرُّوحَ القُدُسَ.» (يوحنا 20: 21–22) وقال أيضا: «ما تَرْبُطونَهُ في الأرضِ يكونُ مَربوطًا في السَّماءِ، وما تَحُلُّونَهُ في الأرضِ يكونُ مَحلولاً في السَّماءِ.» (متى 18: 18) ومنذ تلك اللحظة، شعر كل من أستحوذ على قلبه الروح القدس بضرورة التجمُّع مع الآخرين. وتحت وطأة الحزن والوحشة – بعدما صعد يسوع المسيح إلى السماء – بقي التلاميذ معا في مدينة أورشليم وانتظروا في ترقُّب مقدس. وكانت أسابيع طويلة من الانتظار. ولابد أن يتحلّى الناس بمثل هذا الترقب الشديد قبل أن يمكن للوحدة الكاملة أن توهب. فلا تتحقق الوحدة بواسطة اِلتقاء العقول والأفكار، أو بواسطة ائتلاف الأرواح البشرية للأفراد. وإنما تتحقق حصريا بفضل حلول الروح القدس علينا واقتحامه لحياتنا الذي هو ليس روح بشرية.


نسأل الروح القدس أن يجعل نور ومحبة الكنيسة السماوية المقدسة يشرقان علينا، من كل قرون الدهر، ومن كل الأبدية، وأن يجعلنا متّحدين كليّا معها. ونسأله أن يحلّ علينا روح الكنيسة بكل قواته، ليوقد في داخلنا نارا متأجِّجة لنحيا في سبيله. ونسأل الروح القدس من مكاننا المتواضع أن يستعملنا أينما هو يريدنا أن نكون، وليس أينما نحن نريد أن نكون. فلا نريد أن نفعل ما نشاء بل نشتاق إلى أن يستعملنا الله الذي بيده تاريخ كل الأكوان أينما هو يشاء. ونسأله أن يقودنا بذلك الأسلوب بحيث تعمل النار التي أوقدها فينا على إنجاز كل أعماله ومهامه الإلهية التي يكلفنا بها.


أكبر من نطاق الفردية

لقد أصبحت التقوى الفردية شائعة، ولكن للأسف، فإنها تقتصر على ما يمكن تسميته بتجربة دينية سطحية بحتة، غير أن هذه التجربة لا تستطيع المثول أمام الله لتنال رضاه. وقد ظهرت الكثير من هذه الحركات الدينية السطحية في السنوات الأخيرة، والمقتصرة على الوعظ وتقديم شهادات الإيمان الشخصية والتجارب الفردية مع المُخَلِّص يسوع المسيح، مع حدوث تغيير طفيف في سلوك الشخص وتقديس محدود للغاية لحياته الشخصية.

وبالرغم من أننا نبتهج حينما يصحو الناس على محبة يسوع، وأن ينعموا بمغفرة الخطايا بفضل موته على الصليب، إلا أننا يجب أن نعلن بأن محبة يسوع ومعنى موته على الصليب قد أُسيء فهمهما كليّا حينما يكونان محصورين في اختبار نعمة الخلاص الشخصي على صعيد فردي. وكان من المفروض أن يتنبأ الناس بالتأثير الكارثي للاهوت الحديث من قَبلِ عدة سنوات. (في إشارة إلى علم اللاهوت الجدلي Dialectical Theology.) وعلى الرغم من أن ذلك اللاهوت أرانا أمرا عظيما ألا وهو: إن الله يختلف كليّا عن كل حركاتنا التي تَنْصَبّ إما على الخلاص الشخصي فقط وإما على الإصلاح الاجتماعي فقط. غير أن التأكيد على جانب واحد فقط من جانبي مشيئة الله، الذي سيُبعِد بدوره الله الحيّ كثيرا جدا عنّا، فعادة ما يكون له أيضا تأثيرا في التقليل من الشعور بمسؤولية الخدمات الاجتماعية المتبادلة بين أبناء الكنيسة بل حتى إخمادها.


مما لا شك فيه أن إعلان الأخبار السارّة عن خاطئ غفر له المسيح يُعتبر عملا مسيحيّا حقيقيا، أي بمعنى الإعلان عن ذلك الشخص الذي صار بمقدوره الآن أن يوجّه حياته إلى النقاوة لينتمي إلى المسيح أكثر فأكثر. (راجع كولوسي 1: 28) ويتكلم العهد الجديد، بل في الحقيقة الكتاب المقدس كله، عن ذلك. وهذا هو سبب امتنانُنا لله لأن الكثير من الحركات المسيحية نشأت من حين لآخر من قِبَل ناس يشتاقون إلى تنقية حياتهم في سبيل الله بواسطة مُخَلِّصهم يسوع. وتظهر هذه الموجات من التجدّد الروحي بصورة متكررة، التي هي نعمة عظيمة. ونشكر الله على أن الكثير منّا قد شهدوا شيئا من المسيح في حركات مماثلة.

ولكن مع ذلك، فمن الضروري ملاحظة أن التوجُّه الفردي البحت لمثل هذه الحركات، مهما كان نوعها، لا يجلب القناعة والإشباع الروحي على المؤمنين على المدى البعيد. ولا يمكن لذلك النوع من الديانة المسيحية الذي لا يركّز سوى على الفردية وعلى التجربة الروحية الفردية أن يدوم لفترة طويلة.


لا يتوقف وحي الروح القدس عند أي حدّ، حتى لو كان من أصغر الحدود التي تفصل الروحانيات عن المادّيات. لأن الروح القدس روح مُبدع. فهو يسعى لإيجاد سبيل مباشر من قلب الله لينزل مباشرة إلى العالم المادّي. ونحن نؤمن بأن مشيئة الروح القدس هي خلق حياة مشتركة حقيقية في الأمور المادّية على وجه التحديد، بما في ذلك العمل البدني والأشغال العملية باستعمال العناصر الأرضية. ونؤمن بأن الوحدة التي مصدرها الروح القدس موجودة في ما يُسمّى بالجوانب الخارجية للحياة وبقدر ما هي موجودة في الاهتمامات الروحيّة للإيمان. إذ إن الإيمان يحثنا على القيام بأعمال المحبة. وبعبارة أخرى، يريد الإيمان تسخير المحبة لتحويل المادة لتتناسب مع ملكوت الله وعدله. ويجب على الوحدة التي بيننا أن تمتد وتنبسط لتشمل أشياء الحياة اليومية. وكلما سمحنا للروح القدس بأن يحرّكنا أكثر تغلبنا على مشاكلنا العملية أكثر.


يجب أن يصبح توقيرنا للواقع الذي ينعم به الروح القدس علينا عظيما لدرجة كبيرة بحيث أن همومنا الشخصية التافهة، بما في ذلك حالتنا الصحية واحتياجاتنا النفسية، سوف تتبدد وكأنها في لهب عظيم.

وعندما تأتي الساعة العظيمة، فهل يكون هناك جيل صالح مؤهلا ليجتازها؟ فبالنسبة إلى البشر فلا يوجد أي شيء جدير بعظمة ملكوت الله سوى: الاستعداد للاستشهاد. ولكن ما لم نثبت استعدادنا لتقديم الشهادة والعمل بوصايا الرب على صعيد يومي في الأمور الصغيرة لحياتنا اليومية، فلن نتمكن من استجماع الشجاعة في تلك الساعة الحاسمة للتاريخ. ويلزمنا في حياتنا المشتركة أن نتغلب كليّا على جميع ما لدينا من مواقف ومشاعر تافهة وغير مهمة، وأن نتخلّى عن جميع أساليبنا المغلوطة في كيفية التعامل مع الكثير من الحالات، مثل الخوف والقلق وعدم اليقين الروحي – أي باختصار التعامل مع قلّة إيماننا. وإن ما نحتاج إليه عوضا عن ذلك هو الإيمان، إيمان صغير مثل بذرة صغيرة، ولكن بإمكانية النمو نفسها التي للبذرة، مثلما أكد لنا ذلك الرب يسوع: «لَو كانَ لكُم إيمانٌ مِقدارُ حَبَّةٍ مِنْ خَردَلٍ وقُلتُم لِهذِهِ الجُمَّيزَةِ: إِنقَلِعي واَنْغَرِسي في البحرِ، لأطاعَتْكُم.» (لوقا 17: 6) فهذا كل ما نحتاج إليه، لا أكثر ولا أقل.

إن هذا الإيمان يعمل عملا دؤوبا في وسط مجامعنا بفضل المسيح وروحه القدوس. وقد أحسسنا به، ولكننا لم نعِشْ وفقا له. فلو سحب الروح القدس نفسه من عندنا وتركَنا لأننا أحزنَّاه وأبعدناه ولم نلازمه بكامل التوقير بل استصغرناه، مفضّلين شؤوننا الخاصة عليه، فلا يسعنا عندئذ سوى أن نرفع هذا الدعاء: «اللهمَّ اِنزِلْ بنا عقابك وتأديبك، ولا تُوسِعنا رحمتك الواسعة!» أما هذا التأديب الرحيم أو هذه الرحمة التي توافينا في صيغة التأديب فسوف تحرّرنا بعدئذ من أنفسنا وتُهيِّئُنا أخيرا لدعوتنا الإلهية، جاعلة منّا أداة طيِّعة يستعملها الله.


لو كنا نعيش بحسب طبيعتنا البشرية القديمة، لما أمكننا تمثيل أي شيء صالح، حتى لو حاولنا جاهدين إقامة حياتنا على الكتاب المقدس. أما في الخليقة الجديدة، وفي المسيح، وفي روحه القدوس، وفي أي مكان يوجد روحه القدوس من دون تشويه أو سُخرية، فنرى نشوء حياة مسيحية مشتركة راسخة بين الناس. فليفهم من يفهم! فالحقّ الموجود في الكتاب المقدس ليس حقّ فكري أو منطقي. إذ إنه يتجاوز نطاق المنطق. ولا يوهب سوى للمؤمنين.

لَكِنَّنا لَمْ نَنَلْ رُوحَ العالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي يَأتِي مِنَ اللهِ، لِكَي نَعرِفَ الأشياءَ الَّتِي وَهَبَنا إيّاها اللهُ. وَهِيَ الأشياءُ الَّتِي نَتَكَلَّمُ بِها وَلَمْ نَتَعَلَّمْها مِنْ بَشَرٍ، وَإنَّما هِيَ كَلِماتٌ يُعَلِّمُها لَنا الرُّوحُ القُدُسُ، فَنُفَسِّرُ الحَقائِقَ الرُّوحِيَّةَ بِكَلِماتٍ رُوحِيَّةٍ. (1 كورنثوس 2: 12–13)

لذا فإننا نتواجه مع مسائل عملية جدا: أنؤمن بإمكانية تزايد حلول الروح القدس على جميع كنائس الأرض؟ أنؤمن بمجيء يسوع المسيح إلى وسط مجامعنا، وبقدرته على فتح قلبه الأقدس لنا لكي نعيش كما هو عاش ونؤثر في مجتمعات البلاد كما هو أثّر؟ أنجرؤ على القيام بمهمة تمثيل كنيسة المسيح المقدسة في ملكوته الآتي، وعلى أن نكون مُصلِحين ضمن مجتمعات البلاد بفضل نعمة المسيح المقيم في كنيسته؟ أنجرؤ على أن نعيش حياة المحبة في وسط العالم، والتخلي عن كل امتيازات الحياة وكل حظوة وكل متعة فيها حتى حقنا في التملّك، واسترخاص صحتنا؟ أنحن مستعدون، وعُزَّلٌ تماما، لاِتِّباع يسوع من دون كل هذه الأشياء التي تحمينا وتؤمّن حياتنا؟


المقالة مقتطفة من كتاب: «ثورة الله»