هذه المقالة جزء من المقدمة التمهيدية لكتاب «Another Life is Possible» الذي أصدرته بالإنجليزية كنيسة الحياة المشتركة المعروفة باسم برودرهوف في عام 2020م بمناسبة الاحتفال بمرور 100 عام على انبثاق حياتها المسيحية المشتركة، ويضم الكتاب قصصًا كثيرة تحكي عن الأسباب التي دفعت الناس إلى ترك كل شيء والانضمام إلى مجتمعات برودرهوف Bruderhof. فتقول الكاتبة كلير:

هذا هو الكتاب الذي كنت أتمناه عندما زرتُ أحد مجتمعات برودرهوف لأول مرة منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا. إذ لم تنشر دار المحراث للنشر في ذلك الوقت غير كتابين من كتب أناشيد الأطفال، ومجموعة من القصص لموسم عيد الميلاد (الكريسماس)، وبضعة كتب أخرى من المحادثات والمقالات. غير أنه لم يكن هناك أي كتاب يخبرنا بما يؤمن به أفراد مجتمعات برودرهوف، وكيف أثر ذلك الإيمان على حياتهم المسيحية المشتركة اليومية. وآمل أن يؤدي هذا الكتاب هذه المهمة بل يقوم بإعطاء فكرة أفضل بكثير من ذلك.

التعاون في غسل الصحون بعد وجبات الطعام المشتركة. تصوير داني بوروز DANNY BURROWS

نحن ببساطة جماعة من الرجال والنساء، حيث اختار كل واحد مِنَّا طوعيًّا أن يعطي الأولوية للتلمذة للمسيح فوق أي شيء آخر في حياته/حياتها، وحيث شعر كل واحد مِنَّا بالدعوة لاتباع المسيح، معًا، طوال حياته/حياتها. ونحن نعيش مع عائلاتنا – أو ضمن عائلات أخرى، لو كنا عازبين مثلي أنا – في مجتمعات نتشارك فيها بوجبات الطعام، والعمل، والدخل. ونحن نؤمن بأن الله يريد مثل هذه الحياة لشعبه – حياة سلام ووحدة، حيث لا يوجد أحد أغنى أو أفقر من غيره، وحيث تكون رعاية كبير السنِّ والصغير والضعيف أولوية مشتركة؛ وحيث يجري تقدير الحياة الأسرية؛ وحيث يوجد عمل نافع للجميع؛ وحيث يوجد وقت للضحك، وعلاقات المودَّة، والأطفال.

يوجد اليوم ستة وعشرون مجتمعًا لبرودرهوف في أرجاء العالم، وكل مجتمع منها متميز في حد ذاته ولكنه يقاسم الجميع الهدف نفسه. وتشبه مجتمعاتنا الكبيرة (من 200 إلى 350 شخصًا) القرى الصغيرة، حيث لكل منها مدرسة ابتدائية، وقاعة طعام، ومطبخ كبير للمآدب المشتركة، وعيادة طبية وعيادة أسنان، وقسم غسيل الملابس، ومعمل إنتاجي، وأماكن عمل أخرى، مثل دار النشر التابعة لنا، حيث أقضي فيها أيام عملي. وتتناول العائلات وجبة الإفطار في منازلها على صعيد عائلي، ومن ثم تذهب سيرًا على الأقدام إلى المدرسة أو إلى العمل، لأن كل شيء قريب، ومن ثم يلتقي الناس مرة أخرى ظهرًا لتناول طعام الغداء معًا في قاعة الطعام المشتركة، ومن ثم يعود البالغون إلى العمل، والأطفال إلى الأنشطة المدرسية بعد الظهر. أمَّا الأمسيات فقد تتضمن عشاءًا على صعيد عائلي، أو اجتماع صلاة مشترك، بعد أن يكون الأطفال الصغار قد ناموا، أو القيام بحملة جماعية للعمل في مشروع ما في المعمل أو المزرعة، أو مجرد وقت للاسترخاء، أو التواصل الاجتماعي، أو ممارسة الهوايات. (منذ انضمامي إلى برودرهوف، قضيتُ العديد من الساعات الإبداعية في صناعة الفخار.)

العمل المشترك في مزارعنا. تصوير داني بوروز DANNY BURROWS

بطبيعة الحال، تختلف الحياة اليومية في العديد من مجتمعاتنا الصغيرة المنتشرة في جميع أنحاء العالم، بعضها عن بعض، رغم أنها تجتمع أيضًا بانتظام لتناول وجبات الطعام والصلاة. إذ تدير بعض المجتمعات الصغيرة شركات خدمية للصيانة، في حين لدى البعض الآخر وظائف خارج الجماعة أو يتطوعون في الجمعيات الخيرية المحلية. ويجري التبرع بكافة المدخولات والرواتب للمجتمع المسيحي للجماعة، بغض النظر عن أسلوب تحصيل الدخل، وذلك وفاءً للنذور الشخصية بالفقر التي قدَّمها كل فرد في الكنيسة. وفي المقابل، يجري سدّ جميع احتياجات الناس في مجتمعات الكنيسة.

إنَّ حياتنا المشتركة هي ثمرة الإيمان بيسوع المسيح ورغبتنا في اتِّباع وصاياه. فإنَّ الأشخاص الذين تأسست على يدهم حياتنا المشتركة حصلوا على هذا الإلهام من الموعظة على الجبل، بدعوتها الخالية من المساومات، لتكريس الحياة كليًّا لمشيئة الله. ويمكن للمرء أن يحصل على فكرة عن شكل هذه الحياة المسيحية المشتركة من خلال قراءة سفر أعمال الرسل، الإصحاح الثاني والرابع، الذي يصف طبيعة حياة الكنيسة الأولى في مدينة أورشليم، فيقول: «وَجَمِيعُ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعًا، وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا. وَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ، كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ احْتِيَاجٌ.»

إنَّ حياتنا المشتركة هي ثمرة الإيمان بيسوع المسيح ورغبتنا في اتِّباع وصاياه.

ومثلما دعا يسوع التلاميذ الأوائل «اتركوا شباككم» من أجل اتِّباعه، هكذا شعر كل واحد مِنَّا بالدعوة نفسها للتخلِّي عن كل شيء من أجل اتِّباعه في حياة مُكرَّسة. لقد عاهدنا الرب بتقديم كل ما لدينا – «كل قوتنا الجسدية والروحية» – لخدمة تلك الدعوة. لأن الانضمام يعني تكريسًا مؤبدًا، ويجب أن يشعر كل مِنَّا بأن الله قد دعاه إلى القيام بهذا الالتزام المؤبد. ومن ناحية أخرى، عندما يطلب شخص ما الانضمام إلى الكنيسة، تشعر الجماعة المُكرَّسة أيضًا بمسؤوليتها في تمييز مدى عمق دعوته أو دعوتها. وتُعتبَر المعمودية القائمة على أساس شهادة الإيمان المسيحي (أحيانًا في أواخر سن المراهقة، وغالبًا ما بعد ذلك) الخطوة الأولى نحو الانضمام. ولا يمكن للشخص طلب التكريس المؤبد إلاَّ عندما يصبح بالغًا في سن الحادية والعشرين – فليس لدينا حق تلقائي بالولادة للانتماء إلى الكنيسة. وجميعنا كأفراد مُكرَّسين في الكنيسة قد قدمَّنا النذور المؤبدة نفسها للولاء للمسيح وبعضنا لبعض أينما كنا نعيش.

تختلف الحياة المسيحية المشتركة عن حياة شخص مسيحي يرتاد الكنيسة لبضع ساعات في الأسبوع. ولَمَّا كنا نؤمن بأن كل جانب من جوانب الحياة لديه القدرة على أن يكون عملاً من أعمال الإيمان والعبادة، مثل: الشغل المشترك، والمآدب المشتركة، والترنيم المشترك – فإنَّ اجتماعات الصلاة عندنا بسيطة نسبيًّا. ويرعى اجتماعاتنا أحد القساوسة المعينين أو أي فرد آخر من الجماعة، ونجتمع كل يوم للترنيم، والصلاة، وسماع الكتاب المقدس أو سماع قراءات أخرى. وغالبًا ما تجتمع العديد من مجتمعاتنا للاحتفال بمناسبات أكثر رسمية مثل حفلات الزفاف، والمعمودية، وقبول أعضاء جدد. وكثيرًا ما يحضر الأصدقاء والجيران من عامة الناس هذه الاحتفالات أيضًا.

الابتهاج معًا بدبكة آشورية «خِگا» وهي من أحد أساليب التعبير عن الفرح

أمَّا إيماننا المشترك فهو بسيط: فنحن نقرأ وصايا يسوع المسيح ونحاول وضعها موضع التطبيق في الحياة اليومية، مسترشدين بشهادة المسيحيين الأوائل وكذلك بشهادة الحركة الإصلاحية الراديكالية في القرن الميلادي السادس عشر المعروفة باسم أنابابتسم ‏Anabaptism‏، التي سعى أفرادها هم أيضًا إلى العودة إلى التلمذة للمسيح مسترشدين بوصايا الكتاب المقدس. ونحن نؤمن بأن الكنيسة (التي لا تُعتبَر برودرهوف سوى جزء صغير منها) هي عمل أبدي لله ولا يمكن اقترانها بأي مؤسسة حكومية أو تسلسل هرمي بشري. ورغم ما تقدم ذكره، فإننا نعترف بأن قدرة يسوع تعمل في جميع الناس، بغض النظر عن عقيدة طوائفهم أو مسارات حياتهم. ويسعدنا التعاون مع مسيحيين آخرين وأشخاص من ذوي النوايا الحسنة للعمل من أجل عالم أفضل، سواء كان ذلك من خلال التطوع في المطابخ الخيرية المحلية أو العمل مع منظمات معروفة مثل منظمة الرؤية العالمية World Vision ومنظمة أنقذوا الأطفال Save the Children في جهود الإغاثة في حالات الكوارث.

أفراد المجتمع المسيحي يلقون النظرة الأولى على وليد لإحدى العوائل وهم يرنمون أناشيد الأطفال. تصوير داني بوروز DANNY BURROWS

إننا نحب الأطفال مثلما اكتشفتُ أنا شخصيًّا، ومثلما آمل أن تُظهِر ذلك الصور في صفحات الكتاب. ونحن نحب أن نخرج إلى خارج منازلنا لنتمتع بالطبيعة التي خلقها الله. ونحب العمل والترنيم والاحتفال المشترك. ويقدم مجتمع الحياة المشتركة حياة تُعاش بالكامل، حيث تجري مقاسمة الأوقات الصعبة، وحيث يمكن لكل فرد أن يحصل على الإشباع الروحي والسرور.

العمل المشترك في معاملنا الإنتاجية. تصوير داني بوروز DANNY BURROWS

لقد قرأ ملايين المسيحيين كتاب سي. إس. لويس C.S. Lewis «المسيحية المجردة Mere Christianity» في طريقهم إلى الاهتداء إلى الإيمان المسيحي، وأنا لم أكن مختلفة عنهم. فقد صادفني الكتاب عندما كنتُ في الحادية والعشرين من عمري، وغيَّر حياتي أكثر من أي كتاب آخر في ذلك الوقت. إذ يرشد الكاتب لويس القارئ خطوة خطوة وذلك من خلال توضيح معنى أن يكون المرء مسيحيًّا، ثم يتطرق إلى النتائج العملية للتلمذة للمسيح، فيقول:

إنَّ العهد الجديد [أي الإنجيل]، دون الخوض في التفاصيل، يعطينا إيحاءً واضحًا إلى حد كبير عما سيكون عليه المجتمع المسيحي بأكمله. وربما يعطينا أكثر مما يمكننا تحمله. ويخبرنا بأنه يجب أن لا يكون هناك أي عابر سبيل أو أي طفيلي عالة على غيره في المجتمع المسيحي: فإن كان أحد لا يشتغل، فيجب أن لا يأكل أيضًا. فيجب على الجميع أن يعملوا بأيديهم، والأكثر من ذلك، يجب أن ينتج عمل كل فرد شيئًا جيدًا: فلن يكون هناك أي إنتاج للكماليات السخيفة ومن ثم ترويج إعلانات أسخف لإقناعنا بشرائها. ويجب أن لا يكون هناك أي «تباهٍ» أو «تكبُّر.»

وبناءً على ما تقدم، فإنَّ المجتمع المسيحي هو ما نسميه الآن يساري. ولكنه من ناحية أخرى يؤكد دائمًا على الطاعة – الطاعة (وعلامات الاحترام الخارجية) مِنَّا جميعًا لرجال القضاء المعينين بشكل صحيح، وطاعة الأطفال لوالديهم، وأيضًا طاعة الزوجات لأزواجهن (وأخشى أن الطاعة الأخيرة لن تحظى بشعبية كبيرة). وثالثًا، أن يكون المجتمع المسيحي مجتمعًا مملوءًا بالفرح والسرور: مملوءًا بالغناء والترنيم والبهجة، ويَعتبِر القلق أو الغمَّ أمرًا غير سليم. وإنَّ الوداعة هي إحدى الفضائل المسيحية؛ ويستبشع العهد الجديد أيضًا أولئك الذين يسميهم «فضوليين يتشاغلون بما لا نفع فيه.»

إذا كان مثل هذا المجتمع موجود على أرض الواقع، وقمتُ أنا أو أنت بزيارته، فأنا أعتقد بأننا يجب أن نخرج من هناك بانطباع يولِّد فينا مشاعر متحمسة. فيجب أن نشعر بأن حياتها الاقتصادية كانت اشتراكية جدا، وهي بهذا السياق، «متقدمة،» ولكن حياتها الأسرية وآدابها كانت قديمة إلى حد ما – وربما حتى رسمية وأرستقراطية. وإنَّ كل واحد مِنَّا يُعْجِبُه بعض الأجزاء من هذه الحياة، ولكنني أخشى أن الذين يُعْجِبُهم كل شيء فيها هم مجرد عدد قليل جدا مِنَّا.

عند قراءة هذه الكلمات اليوم والنظر من حولي في حياتنا المسيحية المشتركة، فإنني أرى أنها تصف إلى حد كبير الكيفية التي نحاول نحن في مجتمعات برودرهوف أن نحيا وفقًا لها. وأثناء تجولنا أنا والمصور داني في محاولة وضع الأحداث والفعاليات الحاصلة بمجتمعاتنا في صور، أدهشني أن جزءًا كبيرًا من حياتنا المشتركة يجري التحسس به من خلال الأمور الملموسة الصغيرة التي يتواصل بها بعضنا مع بعض كل يوم – وهذا شيء لن تلتقطه الصور أبدًا. لذلك، ما عليك إلاَّ أن تأتي وترى بنفسك.