قبل أن يكون لدي أطفال كان عندي ست نظريات حول تربيتهم، والآن لدي ستة أطفال ولكن بدون أي نظرية لتربيتهم. قول من اللورد روتشِستر Lord Rochester

 شاعر انكليزي (1647–1680م)

إذا ذكرت تربية الأطفال أمام إرِك Eric، فمن المؤكد ستراه يتحدث عن طفولته. لأنه كان الطفل الثالث من ثماني أخوة وأخوات، وعاش في إحدى الضواحي الغنية، وكانت عائلته تعتبر أسرة نموذجية فيها. لقد كان والده طبيبا مخلصا، كرس نفسه من أجل خدمة عائلته. كان يعود من مكتبه في الوقت المحدد كل مساء ولا يتأخر على البيت، ونادرا ما كان يغادر البيت في عطلة نهاية الأسبوع. وكانت أمه ربة بيت وتشبه الوالد في الاخلاص للأسرة، في حين لم يكن إرِك ولا أحد من إخوته وأخواته يحبون البقاء في البيت، خاصة عندما يتواجد والدهم فيه. فيقول أرِك:

كانت الأمور تسير في بيتنا بصورة رائعة، ولكن من الناحية الظاهرية فقط. فقد كان الخوف في الواقع يحكم الأسرة. ولم يكن والدنا يضربنا دائما، رغم أنه كان يوجه لنا صفعة أو يوبخنا بقسوة في بعض الحالات النادرة، ولكن ويل لك إذا حمّلته على الغضب. فلا تعرف أي نوع من العقاب سينالك...

كان والدي صارما في احترام النظام، وكان يحافظ على استقامة سلوكنا من خلال شلّنا بصورة مؤثرة وذلك بإيقاع الرهبة في نفوسنا. وفي احدى ليالي الصيف، أمسك بأخي الكبير جاك Jack وهو يتسلل من غرفة نومه عبر النافذة، للخروج مع أصدقائه. فركض أبي إلى خارج الدار وانتظره حتى وصل إلى الأرض بسلامة، ثم واجهه وقال له: "حسنا يا بني، من الواضح أنك تفضل الركض خارج الدار، ربما عليك البقاء في الخارج".

وأضطر جاك خلال بقية فصل الصيف أن يتناول وجبات الطعام خارج الدار بجوار المكان الذي يتواجد فيه الكلاب. وقام والدي بشرح الأمر لنا نحن الصغار قائلا: "لعل ذلك يعلِّمه ما معنى أن يتصرف كإنسان متحضر". وترك جاك المنزل عندما كان في السادسة عشرة من عمره، ولم يعد بعدها على الإطلاق.

قام والدي مرة أخرى بإعطاء درس في الأخلاق طوال فصل الصيف لأختي الكبيرة ماري Mary التي كانت بنظر الأسرة من الذين "يسمعون الكلام". فقد كانت ماري تتسم بتحمل المسؤولية تحملاً بالغاً، ولكن حدث مرة أنها تغيبت في نهاية السنة الجامعية الثانية عن إحدى المحاضرات، فهاج أبي غضباً. وما زلتُ أتذكر كيف كانت تتحدث مع صديقاتها يوما بعد يوم، وأسبوعا بعد أسبوع، عبر سياج الفناء الخلفي للدار. ولا شك أن عقابها كان من أكثر أشكال العقاب مذلة.

أما بالنسبة لي، فقد كانت هناك أسباب عديدة تدعوني للشعور بالخوف القاتل إذا خالفت نهج والدي، ولكن مثلا واحدا يكفي لذلك. فعندما كنت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمري، كنت دون شك في الصف السادس، أمسك بي والدي عندما حاولت التدخين لأول مرة. فأرسلني والدي في البداية إلى غرفتي، وانتظرت هناك كما بدا لي لساعات عديدة، ثم جاء إلى الغرفة وقدم لي نصيحة بخيارين: إما أن أقوم على الفور بتدخين كامل علبة الدخان التي بداءتها حتى يتم الانتهاء منها جميعا، أو أن أقوم بوضعه على شباك غرفتي لمدة شهر كامل، وأن اشرح لكل من يدخل غرفتي – بما في ذلك إخوتي وأصدقائي – عن سبب وجوده هناك، وعن رأي والدي بالتدخين على أنه مقرف للغاية. وكنت أعرف إلى أين يؤدي الخيار الأول، حيث سأتعرض للمرض – ولهذا قمت بالاختيار الثاني.

وكنت خلال ذلك الشهر بكامله، أفكر بشيء واحد فقط؛ كيف أجنِّب الناس من الدخول إلى غرفة نومي. وأصبحت في الواقع أخشى التدخين كثيرا وأخاف السجائر بصورة كاملة لسنوات عديدة بعد ذلك، لدرجة أني عندما كنت أسير في الشارع، كنت أحاول الابتعاد عن أي سيجارة أو عقب سيجارة موجودة على الأرض، خشية أن يكون أبي مارا بسيارته من المكان، ويظن أني كنت أدخن.

ومرة في احد صفوف اللغة الانجليزية، تم تحديد كتابة مقالة في إحدى الواجبات، وكنت أعرف أن كتابتها تستلزم ذكر كلمة سيجارة. وكنت خائفا من هذه الفكرة، وأفكر بما يمكن أن يظن به والدي، ولهذا قمت بتمزيق الواجب، وكان علي أن اكذب للخروج من مأزق عدم اكمال الواجب.

إن شيئا مثل السيجارة قد يبدو شيئا صغيرا، ولكن ليس لوالدي... وفي الوقت الذي وصلت فيه إلى المدرسة الثانوية كنت قد أصبحت أكثر قوة، ففعلت كل ما في وسعي أن أقوم به نكاية به. وقلت لنفسي، يمكن أن تكون له الكلمة الأخيرة في البيت، ولكن ليس في مكان آخر. وأظن أنه يمكن القول: لم يكن بيننا (وما يزال) أي علاقة تستحق الحديث عنها.

إن قصة إرِك قصة بائسة، ولكنها قد تنبّه عدد لا يحصى من الآباء الذين قد فعلوا أموراً مماثلة: أي بمعنى ذكريات أحداث مماثلة شوهتْ ما يمكن أن تكون طفولة سعيدة. للأسف، فإن الآباء أحيانا تعميهم مبادئهم لدرجة أنهم يصبحون غير قادرين على سماع ما تقوله لهم قلوبهم. فبالرغم من أن زمام الأمور في يديهم وهم على استعداد أن "يفعلوا كل ما هو صائب" مهما كلف الأمر – إلّا أنهم غالبا ما يخسرون أولادهم خلال هذه العملية.

إن كلمة تأديب كثر استعمالها في قاموس الآباء، وزاد سوء فهمها. فالتأديب ليس مجرد عقوبة. فما التأديب إذن؟ إنه توجيه وليس سيطرة؛ إقناع وليس قمع أو إكراه. وقد يشمل التأديب العقوبة أو التهديد بها، ولكن ليس الوحشية أو استعمال القوة. ويجب ألا يعني أبداً استخدام العقوبة البدنية، لأن هذا كما أرى علامة على الإفلاس الأخلاقي. غير أنَّ ما يجب أن يتضمنه دائما هو الاهتمام المرهف بطبيعة الولد النفسية. وكما يصف ذلك جدي الكاتب ايبرهارد آرنولد بقوله: "إنّ ذلك هو العنصر الحاسم، إذ يجب أن تعني التربية مساعدة الأولاد على أن يصبحوا بحسب ما يرتئيه فكر الله لهم".

والحمد لله. لقد حصلت أنا وإخوتي على مثل هذا الاهتمام من قبل والدينا طوال فترة نشأتنا. وكانت النتيجة علاقة تقوم على المحبة والثقة، استمرت دون انقطاع حتى نهاية أيام حياتهما. وكانت هذه العلاقة بطبيعة الحال قائمة على العديد من المبادئ التقليدية، بما في ذلك تعنيفنا بصخب وإلى درجات غير معقولة أحياناً (خاصة إذا قمنا بالرد على أمنا)، فنشعر بالخجل لفترة طويلة بعد ذلك، متأكدين أن الجيران قد سمعوا كل كلمة.

كانت الشتائم والسخرية تُعتبر من الخطايا الكبيرة في بيتنا. وكنا نحن مثل بقية الأولاد والبنات نسخر أحيانا من الكبار، خاصة إذا كان لديهم أوصاف تثير الانتباه، مثل نيكولاس Nicholas وهو جار لنا وبسيط القلب يتلعثم في الكلام، أو جونتر Gunther الذي كان دقيق جداً في حياته ويعمل في مكتبة المدرسة ويتميز بطوله الشديد. وحتى لو لم يكن هؤلاء الناس (ضحايانا) يعرفون أيّ شيء عن هزؤنا المتحذلق بهم وحيلنا التي جازت عليهم التي كنا نقوم بها من وراء ظهورهم إلا أنّ أهلنا لم يروا وجود أي داعٍ للمزح بهذه الطريقة. فكانا لهما أنف شديد الحساسية لأي تصرفات فظّة متى ما حدثت ولم يسمحا بها على الإطلاق.

ومع ذلك لم يكن غضبهم يستمر لفترة طويلة، حتى ولو كان الأمر يستحق العقاب، وغالبا ما كان يتم التغاضي عن ذلك مقابل عناق لمرة واحدة. وحدث مرة عندما كنت في الثامنة أو التاسعة من عمري أنني أغضبت أبي لدرجة أنه هددني بالضرب. وعندما توقعت الضربة الأولى، رفعت بصري إليه، وقلت له قبل أن أعرف ماذا أنا فاعل: "بابا، أنا آسف حقا. افعل ما تشاء... ولكني أعرف أنك ما زلت تحبني". ولدهشتي الكبيرة، انحنى أبي إليّ ووضع ذراعه حولي، وقال لي بلطف وحنان من أعماق قلبه: "كريستوف، أنا أسامحك". فقد جرده اعتذاري بصورة كاملة من كل غضب. وأصبحت أدرك بعد هذا الحادث إلى أي مدى كان أبي يحبني. وبقي ذلك الحادث حيا في ذهني، وعلمني درسا لن أنساه أبدا في حياتي. درسا استخلصته وطبقته في التعامل مع أولادي لسنوات بعد ذلك. لذا، لا تخاف من أن تأدّب ابنك، ولكن في اللحظة التي تشعر فيها أنه أخذ يتأسف لذلك، فلابد أن تسامحه كليّاً على الفور.

كم سيكون الحال مختلفا، لو كان كل منا على استعداد ليبدي مثل هذا اللطف، ليس باحتضان أبنائنا وبناتنا فقط، وإنما بالدفاع عن الأولاد في كل مكان أيضاً! لكن واقع الحال يقول إننا نقوم بتربية جيل من الأطفال الذين لا نحبهم بل حتى نخاف منهم. وتبدو مظاهر ذلك في كل مكان، في حضر التجول ليلا للشباب في أحياء المدن الكبرى، وإلى تجريم الأولاد لأفعال صغيرة، مثل الكتابة والرش على الجدران، ووضع الحراس المسلحين ورجال الشرطة في المدارس، وأكثر مدعاة للقلق من كل ذلك، هو الارتفاع الصاروخي لمعدل حجز الشباب في السجون.

ورغم الفشل الواضح لمثل هذه "الحلول" الفظّة، فان المواقف تجاه الشباب والأولاد المعرضين للخطر – والقوانين التي تم وضعها من اجل تحديد مصيرهم – تزداد درجة قمعها كل عام. وتوجد في ولاية كاليفورنيا مبادرات تشريعية مثل الاقتراح رقم 21، الذي أعطى المدعين العامين سلطة كبيرة في محاكم الأحداث، وأدى ذلك إلى زيادة عدد المشتبه بهم ممن لا تزيد أعمارهم عن الرابعة عشرة عاما، ويحاكمون مثل الكبار. وتستخدم في ولاية تكساس في الوقت نفسه امتحانات القراءة المدرسية الموحدة التي وضعت لطلاب الصف الثالث، من أجل تحديد عدد غرف السجون الجديدة التي نحتاج إليها بحلول الوقت الذي يبلغ فيه هؤلاء الأولاد سن الرشد (لأنه يُفترض أن تشير العلامات المنخفضة للامتحانات إلى ارتفاع الميل نحو الجريمة).

ولا جديد في استخدام صفات الطفل الشخصية للتبوء بتصرفاته كبالغ، فقد قام بذلك علماء النفس والأطباء النفسيين منذ عقود. ولكن، ماذا يقول ذلك عن مجتمع يراهن فيه القادة على فشل الأجيال القادمة، ولا يحتج أحد على ذلك؟ وماذا يشير ذلك بالنسبة للطريقة التي ننظر بها إلى الأطفال، عندما نسمح للمسؤولين عن مستقبلهم، التنبؤ بمثل هذه التنبؤات المدمرة؟

من الواضح أن دراسة وافية لمثل هذا الموضوع الكبير هي أوسع بكثير من هذا الكتاب، وكذلك النقاش حول العديد من القضايا الأخرى التي تحتاج إلى معالجة مستقلة. فقبل كل شيء، لماذا مثلا، يواجه هذا العدد الكبير من الشباب الموجودين خلف القضبان مشاكل في داخل الصفوف؟ وما هي العقبات التي كانت تسد الطريق أمام تطور نموهم السليم؟

وأتردد أيضا في تقديم المشورة للقراء على هذه الصفحات ولا أريد الإملاء عليهم، حول كيفية إرشاد الأولاد وضبطهم في بيوتهم. لأن الأمر يتوقف في النهاية على أنّ كل فرد له مجموعة مميزة من نقاط القوة أو الضعف، والوعود والتحديات، كما لجميع أولياء الأمور. وربما يكون من الأفضل إتِّباع حكمة يانوس كورزاك Janusz Korczak (ولادة: 1878– وفاة: 1942) وهو طبيب أطفال يهودي، سأروي قصته فيما بعد، فيكتب قائلاً:

أنت نفسك الطفل الذي من واجبك التعرّف عليه، والقيام بتربيته، وفوق كل شيء تنويره. ولو طلبتَ من الاخرين أن يجيبوك على أسئلتك ويدلوك على الطريق الذي يجب أن تسلكه في تربية أولادك لكان الأمر مشابه لقابلة غريبة تساعدك في توليد طفلك. فهناك معرفة لا يمكن أن تولد إلا من خلال آلامك الشخصية، وهي أثمن من كل شيء. فابحث في طفلك عن الجزء غير المكتشف من نفسك.

وعند الحديث عن "المعرفة المولودة من الألم"، فقد اكتسبت أنا وزوجتي فيرينا العديد من هذه التجارب خلال تربية أطفالنا الثمانية. ومثل أغلب الآباء، فربما من السهل علينا أن نقول، آه يا ليت لو كان لدينا الفرصة لنربي من جديد لكنا تصرفنا بشكل مختلف. لأننا كنا أحيانا نظلم أولادنا ونشكِّك في دوافع بعض الأفعال التي كانوا يقومون بها؛ وفي أحيانٍ أخرى، كنا لا ندري ماذا يحصل معهم؛ فكنا تارة متساهلين جدا، وتارة صارمين جدا. بالتأكيد أننا قد تعلمنا من ذلك العديد من الدروس الأساسية أيضا.

لو أدرك الولد ارتكابه للخطأ، وما كانت هناك عواقب مترتبة، لتعلم الاستمرار في ذلك الخطأ. لكن هذا أسوأ شيء نعلّم الولد عليه. فمع الأطفال الصغار قد تبدو هذه القضية غير هامة؛ فقد يكون ذنبه بالحقيقة صغيرا. ولكن يمكن أن تكون لذلك تبعات في المستقبل. وبحسب المثل المأثور: "أطفال صغار مشاكل صغيرة، أطفال كبار مشاكل كبيرة"، فمن السهل علينا أن يفوتنا الأمر إذا أخذناه سطحيّاً، ولكن مثله مثل بقية الأقوال، فإنه يحتوي على حقيقة مهمة. فالطفل الصغير في السادسة من عمره يمكن أن يأخذ خلسة قطع من الكعك، ولكن في السادسة عشرة يمكن أن يسرق من الحوانيت. وفي الوقت الذي يسهل نسبياً إرشاد الطفل الصغير، إلَّا أن إرجاع الأولاد المراهقين المتمردين إلى جادة الصواب ليس ممكناً إلَّا ببذل أكبر الجهود المضنية والشاقة جداً.

ورغم الحاجة إلى العقاب، إلا أنه ليس كافيا في حد ذاته. فالتأديب لا يقتصر على مجرد الإمساك بالطفل أثناء قيامه بالفعل ومعاقبته. فالأهم هو تغذية وتنمية نواياه من أجل عمل الخير، ويعني ذلك مساندته عندما يقوم باختيار عمل جيد بدل العمل الخاطئ – أو كما اعتادت أمي أن تقول: "كسبه للخير". وبطبيعة الحال إن مثل هذا الدعم في سبيل الخير لا يعد شكلا من أشكال التأثير على الولد أو اِستمالته أو تحويل قناعاته؛ فلا يمكن أبدا أن يكون الهدف من هذه الرعاية هو مجرد لتعويدهم على الطاعة، بل يجب أن يكون دائماً لمساعدتهم على بناء ثقة بالنفس التي بدورها تمكنهم من استكشاف الحياة، ومعرفة حدود السلوك التي يجب احترامها في نفس الوقت. فهذا هو أحسن إعداد لمرحلة البلوغ.

سُئِلَ مرة الكاتب انتوني بلوم Anthony Bloom في إحدى المقابلات عن أفضل شيء تعلّمه في نشأته بحيث أفاده عندما صار رجلاً. والكاتب بلوم الذي هو ابن احد الدبلوماسيين المشهورين، الذي بدوره قد قام خلال رحلاته حول العالم باصطحاب عائلته في مغامرات متنوعة، أجاب إجابة بسيطة: "هناك شيئان قالهما لي أبي وأعجبت واحتفظت بهما طوال حياتي". وأردف قائلاً:

أتذكر انه قال لي مرة في نهاية إحدى العطل، "لقد شعرت بالقلق عليكم". فقلت له، "هل كنت تظن أني قد أتعرض لحادث". فقال: "إن ذلك لا يعني الشيء الكثير بالنسبة لي... كنت أخاف أن تفقد نزاهتك". وقال لي في مناسبة أخرى: "تذكر دائما، سواء كنت حيا أو ميتا، إن ذلك لا يعني الشيء الكثير. إن ما يهم هو ما تعيش من أجله، وأن تكون على استعداد للموت من أجله". هذان الأمران كانا الخلفية التي تمت فيها تربيتي...

وخلافا للآباء أمثال والد بلوم، الذي ألهم الشعور بالنزاهة في نفوس أولاده بدل أن يحاول تعليمها لهم، فهناك آباء يقعون في عادة غير محمودة وملتوية، من خلال محاولة الإمساك بالولد وهو يتلبَّس الجريمة – إذا جاز التعبير – ومن ثم استخدام أدلتهم البيّنة لإثبات ذنبه. ويعد هذا عمل من أعمال العنف الأخلاقي. وكذا الحال مع فقدان الثقة بالأولاد، أو محاولة التجسس عليهم، أو التشكيك في نواياهم. فكلها أمور تؤدي إلى إضعافهم، وتجعلهم يشكون في نفسهم. هذا وأنّ انتقاد الولد وتصحيحه باستمرار سيؤديان إلى تثبيط عزيمته وإضعافها أيضا. وأسوأ ما في الأمر، هو أنّ هذه الأمور ستزيل الأساس الذي يبني عليه ثقته بك كوالد أو كوالدة: فسيفقد القناعة بأنك تفهمه. ويقول التربوي الشهير فروبل Froebel:

يلقي العديد من البالغين اللوم على الأولاد الذين – رغم أنهم غير أبرياء تماماً – لكنهم بالحقيقة لا ذنب لهم. فالأولاد غير واعيين بالدوافع والحوافز التي تدفع البالغين إلى توجيه الاتهام لهم، وتجعل أعمالهم موصومة على أنها "سيئة". وعادة ما يجري معاقبة الأولاد على أمور تعلموها من الكبار نفسهم... إلَّا أنّ هذا لا يعلمهم سوى أخطاء جديدة – أو على الأقل سوف ينتبهون إلى أفكار سيئة جديدة لم تحصل مطلقاً معهم شخصياً.

مما لاشك فيه، أنّ كل ولد يحتاج إلى تصحيح بين فترة وأخرى. وأغلبهم يحتاج إليه عدة مرات يومياً. ولكن عندما يجري معاقبة الأولاد معاقبة قاسية جداً فسيطعن التأديب في هذه الحالة في الهدف المرجو من التصحيح ألا وهو مساعدتهم على البدء بداية جديدة. ولهذا السبب فإنه من الأفضل دائما أن تؤمن بمفعول قوة الخير، ولا تشكِّك في الأولاد.

فالتصرفات الأنانية لدى الأطفال نادرا ما تكون كالأنانية الموجودة لدى الكبار، فالأطفال الذين لا يستطيعون رؤية العالم حولهم إلا من خلال نظرتهم المحدودة، يشعرون بملكيتهم للأشياء، خاصة الصغار منهم، الذين بكل بساطة – ببراءة لها ما يبررها – تكون هذه الأشياء مركز عالمهم الصغير.

وإن مشكلة اِتِّهام الأطفال بعدم الأمانة والصدق هي قضية أخرى يميل الآباء للتعامل بها مع أطفالهم، دون الأخذ بعين الاعتبار بوجهة نظرهم. بالتأكيد يجب علينا أن نتصرف عندما لا يكون الطفل صادقا، وأن نحاول الوصول إلى ما حدث فعلا، وأن نشجعه على مواجهة أفعاله. أما محاولة اِستقصاء دوافع الطفل ونواياه فقلما تكون عملاً جيداً، ومن الخطأ أيضا إجبار الطفل على الاعتراف بذلك، فقد يؤدي الأمر في النهاية إلى الإحراج والخجل الذي يدفع به إلى التملص من الأمر من خلال الاعتراف بنصف الحقيقة، وإذا تم الضغط عليه أكثر، فقد يشعر بالخوف من العواقب مما يدفعه إلى الكذب حالا. ألا يفعل الكبار ذلك أيضا للأسباب نفسها؟

إن المغفرة ضرورية عشرات المرات كل يوم، ومهما كان عدد المرات التي يقع الطفل فيها في مشكلة، يجب أن لا نفقد الثقة فيه أبدا. وكذلك الحال مع الكذب. فمن تراه قادر على أن يجزم بأنّ كل مشكلة يجب على الطفل أن يصارع ضدها لا تعكس المشكلة نفسها أو الميول لدى الأهل نفسهم؟ أما إلصاق التسمية على الطفل بأنه "طفل ميئوس منه" أو "هذا لا نفع معه" أو "لا يفيد التعب معه" أو "لا أمل فيه" فمعناه أننا قد وقعنا في شراك اليأس، إلى حدّ فقدان الأمل، كما يعني فقدان المحبة له. فلو أحببنا أطفالنا حقا لما فقدنا الأمل فيهم على الإطلاق، بالرغم من أننا قد نستسلم أحيانا. فلم يرسل الله إلى العبرانيين ناموس موسى فحسب بل حتى المن والسلوى، ذلك الخبز السماوي. فبدون خبز كهذا – أي بمعنى بدون مودة وظرافة ولطف ورأفة – فسيؤدي التأديب إلى نتائج عكسية في النهاية مهما دُرِس بعناية تامة.

مما لا ريب فيه، يتطلب الأمر منك صبراً وجهوداً مضاعفة عندما تصير صديقاً ورفيقاً لولدك بالإضافة إلى القيام بدورك كوالد أو كوالدة. وكما يقول ديل Dale – وهو محام ترك عمله لكي يصبح أبا – هناك بعض الأشياء تفرِّح الفؤاد:

لو فكرتُ في الموضوع لرأيتُ أنّ الحياة مع أولاد يخافون مني أسهل بكثير من الحياة مع أولاد يحبونني، لأنه عندما يخافون مني أولادي، سينصرفون عندما آتي إلى البيت. فسيتفرقون. وسيذهب كل منهم إلى غرفته ويغلق بابه، وسأعمل على تسهيل ذلك بتكديس أجهزة الحاسوب والتلفزيون والستيريو وما إلى ذلك في غرفهم. ولكن إذا كان لديك أولاداً يحبونك، فلن يتركونك بسلام! فتراهم يتعلقون برجليك، ويجرّون ببنطلونك، ويريدون منك انتباهك لهم عندما تصل إلى البيت. وعندما تجلس فتراهم كلهم محاطين بك وجالسين في حضنك. فتصبح وكأنك جِمنازيوم متحرك يلهو به الأولاد في الحدائق. كما ستشعر أنت أيضاً بأنك محبوب.

وهناك صفة مهمة أخرى يجب أن يتحلى بها الوالدان ألا وهي قبولهما بأن يكونا ضعيفين. ففي بعض التجارب التي قد مررنا بها أنا وزوجتي عندما كان ردّ فعلنا على أولادنا أكثر من اللزوم واعتذرنا منهم بعد انتباهنا على الأمر رأينا بأنّ علاقتنا معهم قد تقرَّبت أكثر. ففي كل مرة، كان ذلك يذكرنا على الأقل بأنّ الأولاد أيضاً بحاجة إلى تقديم وعودهم بالتغير والبدء ببداية جديدة في كل صباح مثلما نحن الكبار نفعل تماماً. فيجب أن نقدم لهم دائما الفرصة نفسها، مهما كان اليوم السابق سيئا. وينبغي لنا أن نجعلهم دائما يشعرون باليقين من أننا على استعداد للوقوف بجانبهم – لا نحوم فوقهم – بل في صفهم، ومهما كانت الظروف التي يمرون بها.

من الواضح أن كل عائلة تمرّ بأوقات من النجاح والإخفاق، وبأوقات عصيبة، وبمآسي محرجة. ولا توجد هناك علاقة ذات تعقيدات عاطفية ونفسية أكثر من علاقة الوالد (أو الوالدة) بولده. لكن في الوقت نفسه، لا يوجد هناك ما هو أجمل من تلك العلاقة. فهذا ما نحتاج إلى التمسك به ليشجعنا كلما وصلنا إلى طريق مسدود.

كنت قد أشرت في بداية هذا الفصل إلى يانوس كورزاك Janusz Korczak الذي تعتبر كتاباته حول الأطفال من أروع وأجمل الكتابات في جميع أنحاء أوروبا. وهو معلم أكتسب لقب ملك الأطفال لأنه عٌرِف بنكرانه للذات والتفاني من أجل اليتامى في أحياء مدينة وارسو اليهودية. ولم يكلّ كورزاك أو يملّ على الإطلاق من تذكير الناس بما يشعر فيها الطفل في عالم الكبار، والتركيز على أهمية تربية الأطفال من "القلب" وليس من "العقل".

إن تركيز كورزاك على ما يسميه "الوقوف إلى جانب الطفل" لم يكن مجرد مبدأ يؤمن بها. ففي السادس من شهر آب عام 1942 عندما تم جمع مئتي طفل يتيم كانوا تحت رعايته، وجرى تحميلهم في القطارات في اتجاه غرف الغاز في معسكر الاعدام تريبلِنكا Treblinka، رفض كورزاك عرض الدقيقة الأخيرة من أصدقاء غير يهوديين، رتبوا طريقة من أجل هربه، واختار بدلا من ذلك مصاحبة الأطفال في الرحلة البشعة التي قادتهم نحو الموت.

ليس هناك الكثير من قصص التفاني المؤثرة والعجيبة مثل قصة كورزاك، ربما بسبب الفجوة بين الظروف والأحداث التي لا يمكن أن توصف، والتي استلزمت منه التضحية بنفسه. لكن رغم المسافة التي توجد بين عصره وعصرنا، فإنّ العديد من الأطفال يعانون في العالم اليوم، من حاجة وجود شخص وصي عليهم – أيْ شخص بالغ يأخذهم بيدهم، ويبقى معهم في جميع الظروف. وكذلك لنا نحن الذين نعيش في زمن يتسم نسبيا بالسلام والازدهار، فإنّ كلمات كورزاك الأخيرة التي تم تدوينها عند إرسالهم إلى معسكرات الموت، لا تذكرنا ببطولته فحسب بل حتى تمثل تحديا لكل واحد منا، من الذين قاموا بتربية طفل أو يأملون بتربية طفل، فها هو يقول: “مثلما أنك لا تترك الأطفال المرضى وحدهم في الليل، فهكذا سوف لا تتركهم في وقت عصيب كهذا”

 

وللمزيد من المطالعة عن موضوع التربية، إليكم هذين الكتابين: «لماذا يهمنا الأطفال» و «اسمهم اليوم»