لو لم يكن لدينا تواصل مع الأطفال لأصبحنا مجرد مكائن للأكل وكسب الأموال.

قول من: جون أبدايك John Updike

روائي وشاعر وكاتب قصص قصيرة وناقد أمريكي

إن صرخة المولود الجديد تلمس القلب. إذ تقول: «أحبِبني. ساعدني. اِحمِني.» ونحن البالغين نحسب أنفسنا كمساعدين وحماة لهم. غير أنني كلما فكرت أكثر في الموضوع زادت قناعتي بأننا نحتاج إلى الأطفال أكثر من حاجتهم إلينا.

ويخبرنا الاختصاصيون أن الاكتظاظ السكاني يدمّر الأرض. أما أنا فلا أتفق معهم في هذا: إن ما يدمّر كوكب الأرض هو الجشع والأنانية وليس الأطفال. لأن الأطفال يولدون كمعطاءين وليسوا كآخذين. ولو كان عندنا شيئا من الحكمة لرؤية الحقّ الذي يجلبونه معهم إلينا، لأدركنا أنهم بالحقيقة يولدون أيضا كمعلمين لنا. وبالرغم من تعقيدات حياتنا – نحن الكبار – فيجب علينا أن نخصص وقتا لاستيعاب الدروس التي لا يُعلِّمها لنا سوى الأطفال.

أما الأطفال فيطالبوننا بالأمانة والبساطة. ويتوقعون منا أن يتطابق كلامنا مع أفعالنا. وبالرغم من أنهم يغضبون بسرعة إلا أنهم يسامحون بالسرعة نفسها، مقدمين للآخرين العطية العظيمة لبداية جديدة وفرصة جديدة. ولديهم إحساس قوي بالعدالة والإنصاف. ثم إنهم ينظرون إلى كل شيء بعيون جديدة، فيلفتون انتباهنا إلى جمال الطبيعة الرائعة التي من حولنا.

ولكم أن تتخيلوا ماذا سيحدث لو طبقنا قيم الأطفال هذه على حكوماتنا وعلى سياساتها الخارجية وعلى نهج شركاتنا التجارية وعلى قرارات البيئة وعلى النظرية التربوية.

أن المجتمع الذي لا يرحِّب بالأطفال محكوم عليه بالهلاك. وعلاوة على ذلك، فلا تبدو المشاكل المكدسة أنها لصالح الأطفال أو لصالح القائمين على رعايتهم، سواء كانوا من الأهالي أو من المعلمين. وفي الوقت الذي تكبر تدريجيا الفجوة بين الأغنياء والفقراء، تكبر أيضا نسبة الأسر الفقيرة التي ليس بمقدورها تسديد نفقات المعيشة الأساسية مثل مصاريف السكن والتأمين. وفي العديد من المدن، فقد استوجبت الظروف العائلية المُتأزِّمة زيادة حاجة العائلات إلى رياض الأطفال لتصل إلى 24 ساعة في اليوم. وليس لدى الأهالي الذين يشتغلون لساعات طويلة خلال اليوم أي خيار سوى أن يسلموا أولادهم إلى مقدمي الرعاية الذين يتعيّن عليهم أن يتولوا مهام الوالدين التقليدية مثل تلبيس الأطفال، وتقديم وجبة الفطور، والاهتمام بهم خلال فترات الإصابة بالأمراض؛ وتنويمهم في الليل.

وفي أثناء ذلك، يجري تسليم قواعد وتوجيهات حكومية جديدة وغير مجرّبة إلى المعلمين والطلاب تهدد بدورها الأصالة الطفولية لطبيعة الأطفال وأيضا قابلياتهم. أما أصوات من يعارض تلك المقررات فنادرا ما تصل إلى مسامع صانعيها من السياسيين.

لقد اشتغلت المعلمة المتقاعدة والمستشارة التربوية بيفرلي براكستون Beverly Braxton لصالح الأطفال على مدى عقود، لكونها كانت تقدم النصائح التربوية إلى الأهالي. وها هي تلخّص المشكلة التي نحن بصددها كما يلي:

غالبا ما أسأل الناس في محلتي عما يتخوفون منه وعما يقلقهم بالأكثر عن موضوع نشأة الأطفال في عالم اليوم. فيذكر معظم الناس قائمة من مخاوف مماثلة وهي كالآتي: كثرة الوقت الذي يقضيه الأطفال في مشاهدة التلفزيون والإنترنت والألعاب الإلكترونية والموبايل، وكثرة تعرضهم للأفلام الجنسية الإباحية وللعنف، وافتقارهم إلى الوقت الأسري والحياة الأسرية وإلى وجبات الطعام الأسرية وحلول ظاهرة الأكل الانفرادي على عجل وكيفما اتفق، والإجهاد الناجم عن طموحات التفوق الأكاديمي، وقلة اهتمام الأطفال بقضاء بعض الوقت في حب الاستطلاع لما هو خارج الغرفة مثل اللعب في ملاعب الأطفال أو استكشاف الطبيعة أو زيارة الجيران وما شابه ذلك. غير أنني عندما كنت أسألهم فيما إذا كان لديهم أية أفكار بشأن الكيفية التي يمكن بها معالجة هذه القضايا، فكل واحد منهم كنت أكلمه كان يهزّ أكتافه باستياء وكأنه مغلوب على أمره وليس في يده أية حيلة.

قد يبدو الاستسلام ردّا مفهوما لهذه الشرور المتشابكة، لكنه ليس الردّ الوحيد. فلو بدت كل هذه المخاوف كبيرة جدا للتعامل معها في آن واحد، فيمكن لكل واحد منا أن يبدأ على الأقل برعاية الأطفال الذين نقابلهم كل يوم.

لقد ترعرعتُ أنا وزوجتي فيرينا Verena في أسر كبيرة، وقد رزقنا الله بثماني أولاد. ثم رزقنا الله بأربعة وأربعين حفيدا بالإضافة إلى ابن لأحد أحفادي، لحد هذه اللحظة. ونشكر الله على كل واحد منهم.

وخلال مدة زواجنا، التي شارفت على الخمسين عاما، سافرنا معا إلى جميع أنحاء العالم. وأمضينا وقتا في العديد من البلدان النامية بالإضافة إلى المناطق الحربية مثل رواندا والعراق وغزة وإيرلندة الشمالية خلال أزمنة الاضطراب. وقد التقينا في كل سفرة من سفراتنا مع المئات من الأطفال. ولمسنا في مدارسهم تصميما عظيما للدراسة رغم قلة التمويل المالي. وأرانا التلاميذ، وعيونهم مليئة بالحماس، ماذا كانوا يتعلمون، وأنشدوا لنا الأناشيد، وجعلونا نحسّ بترحيبهم لنا. وقد مشى بعضهم عدة أميال من أجل نعمة التعلُّم المشرِّفة ويداوم في المدرسة. أما الجوع والمصاعب التي كانت شعوبهم تكابدها فلم تكن ملامحها بادية على وجوه الأطفال بعد.

لقد رأينا لدى بعض الشعوب الأكثر فقرا في العالم أن الأطفال بالنسبة إليهم يُعتبرون كنزا وطنيا. فكان الأطفال يمثلون مستقبل الحضارة بأكملها وليس مجرد ورثة للقب الأسرة. وكان لدى القرى حتى الأكثرها حرمانا مدرسة في موقع مركزي للقرية، تم إنشاءها بجهود جماعية لمجتمع القرية وبما تيسر لهم من تجميع مواد قليلة بجهود جهيدة.

وكلما كنا نعود إلى أمريكا كنا نصطدم بالفارق الثقافي. وبالرغم من أن العالم الغربي مدجّج بالمال، غير أن مراكز رعاية الأطفال والمدارس فيه لا يدخلها سوى قلة من الأطفال نسبيا. فهل تُعتبر أماكن التعليم مركز حياة المجتمع عندنا؟ وهل يُعتبر الأطفال كنزا وطنيا لدينا؟ فمن حيث أنهم سيصبحون من ذوي الدخل في المستقبل وستكون لديهم قوة شرائية، فالجواب: نعم، لكن هل يُنظر إلى كل فرد من الأطفال على أنه إنسان فريد بحد ذاته وتنعقد الآمال عليه لتجديد الحضارة؟ فالجواب: لا، ليس كثيرا. وفي الحقيقة، فغالبا ما يتمحور النقاش كليّا حول تقدير الإيجابيات والسلبيات الناجمة عن إنجاب الأطفال، مثل: المجازفات المالية، والتكاليف الطبية المُكْلِفة، وأعباء التربية.

وعندما تحدثتُ عن هذا الطابع الاقتصادي في النظرة إلى الأطفال مع أسرة جارة لنا، ستيف وشانون Steve and Shannon، ولديها أربعة أطفال، أجابت الزوجة شانون إجابة قاطعة قائلة:

للأسف، عندما تخبرنا وسائل الإعلام وأيضا العالم الذي يحيط بنا، بأن «الطفل يكلف كذا» فإن هذا بحد ذاته يسلط ضغطا كبيرا على الناس ويسبب قلقا عارما في نفوسهم. فيجب أن يقولوا: «ما مقدار المحبة التي بإمكاني تقديمها؟» وليس: «كم لك من المال؟»

وعندما يرى أغلب الآباء مولودهم لأول مرة، فلا يقولون: «ردّه إلى مكانه» أو: «لا أريد المولود.» وسوف استصعب تخيّل وجود والد (أو والدة) لا يريد النظر إلى عيني مولوده والشعور بمحبة فورية، وبإحساس غامر بالفرح.

فما نفع أن يكون الإنسان فرحانا لو لم يكن لديه شخص يشاركه الفرحة؟ فهل يستطيع الإنسان الحصول على فرح بمفرده – أي بمعنى فرح أناني؟ إذ أنه من المفترض إهداء الفرح إلى الآخرين؛ فكلما زاد عدد أولاد الأسرة زاد مقدار الفرح الذي يمكنها نشره إلى أولئك الذين من حواليها ومن ثم مضاعفته.

على الرغم مما تريد حركة child–free (الداعية إلى عدم الإنجاب) إقناعنا به، إلا أن إنجاب الأطفال أمر طيب وسليم وطبيعي. ولا يجوز تصوير دور الوالدين في التربية بأنه مجازفة مالية تعجيزية أو عبء عاطفي ونفسي كبير. كما أنها ليس من اختصاص الخبراء فقط. إلا أنها تحتاج فعلا إلى قلب نابض بالمحبة للأطفال وإلى أن نرضى بتقديم التضحيات من أجلهم. فبدون الاستعداد للتضحية، كيف يسعنا اختبار معنى الحياة والغرض من الوجود؟

وبطبيعة الحال، هناك العديد من الناس المعتادين على تقديم التضحيات، والعمل في ظروف صعبة أو في وظائف خطرة بدون مقابل أو بأجور زهيدة لا تُذكر. وقد نتوقع منهم أن يجادلوننا بأنه من الصعب جدا حماية طفل في عالم مخيف ومحفوف بالمخاطر مثل عالمنا الحالي وذلك لأن الطفل هو مجرد إنسان ضعيف وعاجز. غير أن محادثة لي مع أحد رجال الشرطة الشباب كانت تتحدى هذا الافتراض أيضا.

فمن بين خدماتي الرعوية المتنوعة، أقدم خدمة المشورة كقسيس في مؤسسات الشرطة المحلية والقومية. فتعطيني هذه الخدمات فرصا للانضمام إليهم في خدمة المحتاجين في المحافظة والبلد. وأذكر على سبيل المثال مارك Mark، وهو من أحد ضباط الشرطة الذي أقدم له المشورة، فقد دخل مرة في مشادة كلامية كبيرة مع شاب كثير المشاكل وكان عليه أمر إلقاء قبض صادر منذ فترة طويلة. وعندما حاول الضابط إدخاله إلى الحبس تحوّل الموقف إلى عنف.

وفي أثناء إحدى جلسات المشورة التي أعقبت انخراط مارك بذلك الحادث العنيف، أخبرني مارك كيف أثّر ذلك الحادث عليه كثيرا. فأخذ مع خطيبته يعيدان ترتيب أولوياتهما وقررا الزواج سنة قبل الموعد المخطط له. وفي الحقيقة فقد تشرّفت بتقديم صلاة بركة لهما عند زفافهما، ومن ثم بتقديم صلاة بركة لولادة ابنهما. فحكى لي مارك أفكاره عن التربية:

كنا نفكر باستمرار في الإنجاب. غير أن مخاوفنا الرئيسية هي عن مستقبلهم. فهل سيعيشون في عالم من الفوضى، غير قادرين على الاستمتاع بنشأتهم، وخائفين دائما على أرواحهم؟ وما نسبة النجاة في المستقبل؟ وأدركنا ضرورة تنشئة الأولاد على الأخلاق الحميدة والسلوك الصحيح – «جنود الغد.» إن المسألة متروكة لنا لتنشئة أولادنا ليصبحوا مثلما نريد للعالم أن يصبح. ومساهمتي ليوم الغد وللمستقبل هي أن أعلّم ابني القيم، مثل تعليمه الفرق بين الصح والغلط. وعلى الرغم من الوضع المرعب للعالم الذي ينحدر نحو الجحيم فيمكنني تقديم شيء نافع لإنسان واحد على الأقل.

أما نحن فلن نعمّر هنا إلى الأبد، فينبغي أن نورِّث ما باستطاعتنا، وإلا توقف كل شيء هنا. لقد تعلمت الكثير من جدّي. فسوف يستاء جدّي لو توقفتْ عندي كل تلك المعرفة والدروس الحياتية التي ورّثني إياها. لذلك، أحسّ بارتياح عند توريثها لجيل جديد. فبوسع ابني أن يأخذ على عاتقه هذه المهمة وآمل أن يورِّثها لأولاده.

وتشبه التربية ركوب قطار الموت (رولو كوستر) في مدينة الملاهي، أي بمعنى فيها صعود ونزول. فليست المسألة سهلة دائما، غير أنها من ناحية أخرى ليست صعبة دائما. ويكون الجزاء على قدر ما تدفعه من ثمن. فما تتقاضاه أكبر بكثير من التضحية التي تقدمها مثل عدم تمكنك من الخروج مع أصدقائك إلى المقهى أو القيام بأي شيء آخر تحبه، وقد تنظر إلى كل هذه الأمور بأنها «عبء» ثقيل عليك. إلا أنه ليس هناك أحلى من المشاعر التي تحس بها عندما يعانقك أولادك بأيديهم. وبمجرد نظرة إلى عيني الطفل سوف تعلم بأنهم موجودون في هذه الدنيا بفضلك أنت، وسوف ترى كيف يستكشفون العالم من حواليهم – فلا يمكنك التعبير عن تلك المشاعر بالكلمات. لقد كان جزء من كياني محبوسا عليه لسنين طوال، والآن بدأ يعود ويخرج وأصبحتُ أتعلم كيف ألعب كطفل مرة ثانية.

فإني أتعامل مع واقع قاسٍ كل يوم. غير أنه ما أحلى أن أعود إلى البيت ليلا ولا أفعل شيئا سوى الجلوس هناك ومشاهدة ابني ينام – فهذا ما يجعل دنياي على ما يرام.

ربما يقول المتشككون بأن الكلام سهل عن الترحيب بالإنجاب بالنسبة إلى أسرة لديها أبوين ووظيفتين. غير أنني سمعت الرسالة نفسها من شخص لا يملك كل تلك الامتيازات. فهناك ممرضة بسيطة للرعاية المنزلية واسمها ليسا Lisa، التي ربّت بنتها لوحدها. فها هي تحكي تجربتها:

يسألني أصدقائي باستمرار كيف تمكنتُ من تربية ابنتي. أما أنا فلست متأكدة لحد الآن من الإجابة. إلا أنه يسعني القول بأنها كانت صعبة للغاية. ويمكنني إخبارهم بأننا لم نكن نأكل إلا عندما كنا نحصل على طعام، وكانت أحيانا مرة في اليوم. ويمكنني إخبارهم عن مقاسمتنا أنا وبنتي لفراش واحد أمام مدفأة معيوبة مليئة بالعطلات. إلا أن بنتي التي عمرها الآن 19 سنة ستخبركم قصة مغايرة بحسب نظرتها هي: كيف متنا مرة من الضحك لغاية ما قلبنا المدفأة، وكيف بكى مرة أحدنا على أكتاف الآخر. وبطبيعة الحال، كان بودها أن يكون لها أب. وطبعا، لم أنقطع عن الصلاة لأجله، إلا أنه لم يرجع، لكن، ماذا كان حالي لو لم تكن بنتي معي؟ فلا أعتقد بأني كنت سأنجو وأتدبر أمور حياتي لوحدي. فلا أطيق تحمل الحياة بدونها.

ليس جميع الأطفال محظوظين مثل بنت ليسا، التي ربتها أمّ شجاعة وشاطرة، أو مثل ابن مارك، بوالديه الأشداء بعزيمة قوية في بيت تملأه الطمأنينة والأمان العائلي. غير أني وجدت أن الأطفال يبقون في جوهرهم أطفالا حتى أولئك المحرومين من التنعم بطفولة سليمة. فربما يكونون ضحايا لمشاكل الوالدين في البيت مثل المعاملة السيئة أو الإدمان، أو التفكك العائلي. غير أنهم وبالرغم من أن نفسيتهم خائفة إلا أنهم ينظرون إليك بعيون مليئة بالأمل. ويمكنك رؤية الأسئلة في عيونهم: «ماذا بوسعك عمله لأجلي؟ أين أجد مكانا أتلاءم فيه مع هذا العالم؟» وتعلمتُ خلال السنين أن لكل طفل قصة حياة يريد التحدّث بها. وتحتاج كل قصة إلى شخص لديه وقت للاستماع ليحكيها الطفل له، كأن يكون ذاك الشخص أحد الأبوين أو معلم موثوق به أو مرشد اجتماعي.

لقد أسسنا أنا وزوجتي برنامجا يدعى كسر الدائرة Breaking The Cycle، هدفه تقديم الجواب الإيجابي لحل النزاعات بأسلوب اللاعنف والمسامحة إلى المدارس، حيث هناك خوف من إطلاق النار على المدارس، فضلا عن العنف والبلطجة لعصابات الأولاد، التي كلها تؤثر على الأطفال والمعلمين والأهالي. ووصل مرة عدد الطلاب في إحدى مجالس المدارس إلى عدة آلاف. أما رؤية مثل هذا البحر من وجوه الأطفال فتبعث على الإلهام، لكن أيضا على القلق والتأمُّل والتفكير الجاد بهم. وفي كل مجلس من هذه المجالس المدرسية أتذكر القول اليهودي من المذهب الحسيدي: «لو أنقذت طفلا واحدا لأنقذت العالم.» ومن الضروري جدا أن نخبر الأطفال بأنهم مهمون وأعزاء علينا؛ وبأننا مخلوقون من أجلهم وبأننا نحبهم.

لقد أصبح هاشم كاريت Hashim Garrett من أحد المتحدثين الرئيسيين في هذا البرنامج. وعندما كان في سن الخامسة عشر تم إطلاق النار عليه ست مرات في هجوم للعصابات فخلفته الحادثة مشلولا جزئيا من منطقة الخصر وإلى أسفل. فامتلأ في البداية بالغضب وبالرغبة في الانتقام. غير أنه أدرك في الوقت المناسب أن مسامحة الجاني ستحرّره من فخ الكراهية، وتعطيه الفرصة لمساعدة الآخرين.

وقال هاشم، وهو مسلم ملتزم، أن إيمانه هو الذي أرشده إلى المسامحة والغفران. وقد ساعده إيمانه هو شخصيا مع زوجته أيضا في اتخاذ قرارات حاسمة على صعيد الجبهة الأسرية في بيتهما عندما يصارعان مع صعوبات تنشئة الأولاد تنشئة مسؤولة، فها هو يقول:

لقد باركني الله بزوجتي مايا Mia الرائعة، وبطفلين رائعين. وباعتباري زوجا معاقا، فإن ذلك هو امتحان لي. فهناك أشياء لا أستطيع فعلها مع زوجتي وطفليّ. فلا أستطيع اللعب في البحر مع طفليّ أثناء الإجازة. ولا أقدر أن أعلمهما كيفية ركوب الدراجة الهوائية. غير أنهما يعرفان أن أباهما يحبهما كثيرا. وقد تعلمت أن كمية ممتلكاتنا ليست مهمة بالحقيقة، وإنما نوعية الوقت الذي نقضيه معا. فعندما أكون في البيت، ألعب معهما، وأحتضنهما، وأحممهما، وأطعمهما، وأقرا معهما، والأهم من كل شيء، نصلي معا.

وعندما أرسلنا بنتنا بعمر سنتين لتداوم في الرعاية النهارية، اعترانا شعور كبير من الضعف؛ لأنها كانت المرة الأولى التي تركنا فيها طفلنا الوحيد في رعاية الغرباء. ويبدو أنه أمر لا يمكن تجنبه أبدا. وكانت بنتنا هارموني Harmony تداوم في تلك الروضة لمدة تسع ساعات في اليوم بينما كنتُ أشتغل وزوجتي مايا تدرس في المدرسة. وبعد فترة، بدأنا نلاحظ تغيرات في السلوك والشخصية على هارموني. فصارت تبكي، وتحتدّ وتغضب، ولا تريد أن تذهب إلى المدرسة في الصباح. فلم تعد بنتنا هي نفسها التي نعرفها.

ففكرت زوجتي بجدية بالتوقف عن الدراسة لكي تبقى في المنزل مع هارموني. ففي بادئ الأمر، كنت قلقا جدا على انحدار السلوك الاجتماعي لبنتنا هارموني وعلى افتقارنا إلى الخبرة في مجال التعليم. وكنت أتصور كيف سيعتب أقاربنا وأصدقاؤنا علينا ويسألوننا: «لماذا أردتما إخراج بنتكما من رعاية الأطفال؟» ثم كان هناك التضحية المالية في مدخولنا التي يتطلبها بقاء أحد الوالدين في المنزل، في حين يعمل الآخر بدوام كامل.

فوصل الأمر حدّﮦ. فكنا كأسرة نقضي أغلب ساعات النهار بعضنا بعيد عن بعض وكنا نستنزف طاقاتنا المادية والنفسية على أمور لا تمت بصلة إلى أسرتنا. فغابت الضحكة عن بيتنا. فقررنا أخيرا أن نبدأ بالتعليم المنزلي لبنتنا هارموني.

وساهم قرارنا هذا بتحويل بيتنا إلى مكان حيث الجميع فيه يتعلم. فتعلمتُ أنا وزوجتي التحلي بالصبر مع طفلينا. وتعلمنا أن نحب، ونضحك، ونقدّر الأشياء الصغيرة. وتعلمنا أن يغفر بعضنا لبعض.

لقد أخذ هاشم ومايا بنظر الاعتبار كل الصعوبات المحتشدة ضدهما: عجز هاشم، وتحديات اقتصادية، واحتياجات طفليهما. ثم اختارا طوعيا وبوعي كامل أن يعطيا الأولوية لطفليهما. ولا يوجد عندهما أي شيء أهم من تلك السنوات العزيزة التي قضياها معا كأسرة ووضعوا الأساس لانطلاقة صحيحة.

وغالبا ما كان الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت Franklin D. Roosevelt يؤكد على هذه المهمة الأساسية للأسرة في المجتمع، فيقول:

ندرك جميعا أن الروحية داخل المنزل هي من أهم العوامل المؤثرة في نمو الطفل. ففي الحياة الأسرية، ينبغي أن يتعلم الطفل أولا الثقة في قدراته، واحترام مشاعر وحقوق الآخرين، والشعور بالأمان وحسن النية المتبادلة، والإيمان بالله. لذلك، فإن نوعية الحياة التي يبنيها الآباء والأمهات داخل الجدران الأربعة لبيوتهم هي المسؤولة وإلى حد كبير عن الحياة الاجتماعية والحياة العامة للبلاد في المستقبل.

ومثلما أننا لا يمكن أن نرعى الطفل بمعزل عن أسرته، فكذلك فإن مصلحته مرتبطة أيضا بالكثير من المؤسسات الأخرى التي تؤثر في نموه – المدرسة والكنيسة والوكالات التي تقدم نشاطات مفيدة لقضاء وقت الفراغ. . . . أما الأموال والجهود المضنية المبذولة في هذه المؤسسات العامة والخاصة فسيكون مردودها أضعاف المرات.

كم مرة انحرفنا نحن كشعب عن هذه الرؤية! فبالرغم من إن تنشئة الأطفال وتربيتهم تحتاج إلى شجاعة، إلا أننا نحصد بالمقابل ثمار رائعة ومجازاة عظيمة. ويمكن للآباء والمعلمين أن يتركوا إرثا لا يُنسى. غير أن عملنا يجب أن لا يتوقف عند هذا الحدّ. فيلزمنا أن نتكلم جهرا خارج جدران المنزل أو الفصول الدراسية.

ونيابة عن جميع الأطفال، يلزمنا أن نقلب الأولويات الوطنية في بلادنا رأسا على عقب، وذلك بجعل الإنفاق على الأطفال في الجزء العلوي، والبنادق والقنابل في الجزء السفلي – هذا لو أبقينا الأسلحة بالأساس. فيمكن مضاعفة عدد المدارس الجديدة في جميع أنحاء البلاد، وليس مضاعفة عدد السجون الجديدة، ويمكن للسياسيين أن يفوزوا بالانتخابات على أساس أفضل موضوع يطرحونه من على منصاتهم الانتخابية ألا وهو عن موضوع التربية والتعليم، وليس عن أصعب نهج للتعامل مع الجرائم أو عن أشرس نهج للسياسة الخارجية.

فالعالم بحاجة إلى الأطفال، ولكنهم يحتاجون إلينا أيضا.

ونحن مدينون لهم بأكثر من مجرد إبقائهم على قيد الحياة. كما عبّر عن ذلك الشاعر الهندي رابندرانات طاغور Rabindranath Tagore كما يلي:

إن الأطفال هم كائنات حية – وأكثر حيوية من البالغين، الذين تقوقعوا بأساليب محددة متحجرة. لذلك فإنه من الضروري جدا لصحة الأطفال النفسية ولنموهم أن لا يكون لديهم مدارس لدروسهم فحسب، بل حتى عالم كامل تتسم روحيّته الإرشادية بالمحبة الشخصية لهم.

في كل يوم يولد أطفال جدد في عالمنا، وكما كتب طاغور فإن كل طفل يجلب معه إلينا، «الرسالة المتجددة بأن الله لم يَيأسْ من البشر ولم يتخلَّ عنهم.» إنها فكرة عجيبة لكنها تحمل تحديا أيضا. فلو لم يفقد الخالق أمله في جنسنا البشري، فمن نكون نحن لنفعل ذلك؟


هذا المقال مقتطف من كتاب «اسمهم اليوم»