ثم إنَّ قدرة ملكوت الله المستقبلي كان يمكن ملاحظة فاعليته على أرض الواقع في الكنيسة ‏الأولى وأمكن رؤية واقعيَّته وثمره عليها، وذلك بفضل بركات عمل الروح القدس فيها. فقد حدثت ‏تحوُّلات وإصلاحات في حياة الناس. فالقوة على مواجهة الموت التي كانت متأصلة في التقدمة ‏القُربانيَّة ليسوع المسيح على الصليب قادتهم إلى أن يقبلوا ببطولة طريق الاستشهاد، بل وأكثر من ‏ذلك، لقد أكَّدت لهم الانتصار على القوة الشيطانية للشرِّ والرذيلة والمرض.‏

فكل من استيقظ إلى الحياة الجديدة بفضل الروح القدس بعد إيمانه نال قوة تتفجَّر بتوجُّه جديد جدًا نحو الحياة، ألا وهو: محبة الإخوة والأخوات، ومحبة جميع الناس حتى الأعداء؛ إنه العدل الإلهي للملكوت الآتي. ثم إنَّ المُلكية في الكنيسة الأولى أُلْغِيَتْ بفضل هذا الروح الجديد. لذلك كانت الممتلكات تُسَلَّم إلى المفوضين في القيام بخدمة فقراء الكنيسة. وأصبح هؤلاء الأفراد المؤمنين جماعة أخوية واحدة ومتقاسمة بكل معنى الكلمة بفضل حضور الروح القدس وقوته وبفضل الإيمان بالمَسِيَّا Messiah.

المناداة بالملكوت

أمَّا المهمة الجسيمة المُلقاة على عاتقهم فكانت: جعل شعب إسرائيل يتواجه مع واقعه المرير، ومناشدته ووضعه‏ أمام فاجعة وشيكة الحدوث، وفي الحقيقة، فإنَّ البشرية بأجمعها كانت بحاجة إلى أن تُهَزَّ لتصحو من الفتور واللامبالاة إزاء هلاك أكيد لأجل أن يتأهب جميع الناس لمجيء ملكوت الله. وقد أدرك فجأة أفقر الناس أن إيمانهم الجديد هو العامل الفاصل في الموضوع، واللحظة الحاسمة في التاريخ كله.

وكانت الكنيسة الأولى بجميع مجتمعاتها تستمد عزيمتها وقوتها اليومية للقيام بهذه المهمة من كتابات الناموس اليهودي والأنبياء؛ ومن إيمان النبي يوحنا المعمدان ومن يسوع المسيح نفسه؛ ومن شهادة المعمودية التي كان يعلن فيها المؤمنون الجُدد إيمانهم المسيحي عندما يتعمدون؛ ومن ولائم المحبة المشتركة التي كانوا يحتفلون بها لإعلان موت وقيامة يسوع المسيح؛ ومن الصلاة الجامعة إلى الله والمسيح. وكان يجري تكرار ترديد أقوال يسوع المسيح وقصصه، وكل ما أرادوا معرفته، في محاضرهم على مسامع المؤمنين. ولهذا السبب نرى أن المصادر الأصلية للإنجيل وكتب العهد الجديد من الكتاب المقدس تعود إلى زمن الكنيسة الأولى.

وكانت صرخة المسيحيين الأوائل «تعال يا رب» تُمثِّل صرخة كل المؤمنين على مدى الدهور أينما كانوا، ‏وتُمثِّل أيضًا شوقهم غير المتناهي إلى الرب. إذ إنَّ ‏الرب يسوع المسيح الذي نُفِّذ فيه حكم الموت، ومات ‏ودُفن، إنما هو حيٌّ وليس ميتًا منذ ذلك الحين، لأنه قام من بين الأموات. فكان يدنو إليهم كالواحد ‏الحيِّ المهيمن. لقد قام المَسِيَّا يسوع من الموت، وسوف يقتحم ملكوته العالم عند مجيئه الثاني! لقد ‏كانت هذه الوقائع هي رسالة أتباعه الأولين، مثل بطرس، الذي ترأّس الكنيسة في أورشليم وقت ‏تأسيسها.‏

انتشار الرسالة المسيحية

لقد أخذ أصدقاء استِفانوس – الشهيد الأول للمسيحية – هذه الرسالة من أورشليم إلى مدينة أنطاكية الكبيرة (في تركيا حاليًا). وترتَّب على ذلك أن تلك المدينة القريبة ذات الثقافة اليونانية مَهَّدَت الطريق لعمل الرسل حتى قبل وصولهم إلى أفسس بآسيا الصغرى أو إلى كورنثوس أو إلى روما. ففي مدينة أنطاكية صاغ أعداؤهم اسم «مسيحيين» كاسم يطلق على شعب المسيح. وذلك الاسم، الذي كان يستخدم لتمييز هؤلاء الذين كانوا ينتمون إلى مستقبل المسيح المسياني (أي العالم العتيد)، كان اسمًا ملائمًا فعلاً وبشكل عجيب، بحيث لم يَبقَ بالتأكيد غير ملحوظ آنذاك من قِبَل الناس وعلى كافة المستويات. وقد أُرْسِلَ بولس وبرنابا من أنطاكية إلى الأمم الوثنية رسلاً للروح القدس. ولكن، هل كانا أول رسولين جديدين بعد جماعة التلاميذ الاثني عشر الأصلية؟

إنَّ شهادة بولس – المُتمثِّلة بإعلانه للصليب والقيامة، وبإعلانه للتحرر والوحدة اللذين ينعم بهما الروح القدس – أثَّرت بقوة في الكنيسة. فقد انتشر عمله في بقاع كبيرة من العالم المعروف في ذلك الوقت. ولقد كان بولس هو الذي أسَّس، تحت قيادة الكنيسة في أورشليم، معايير للسلوك التي قامت بتوحيد المسيحيين من خلفية يهودية مع المسيحيين من خلفية أممية (أيْ وثنية). فقد منع الانحلال الجنسي، ورفض الأوثان باعتبارها قوى شيطانية، أمَّا تحريم تناول الدم في الطعام فقد تمكَّن به من تأسيس وحدة عملية بين المسيحيين من ذوي خلفيات يهودية وأممية؛ وكانت لتلك الوحدة مدلولها. فقد كانت تعني انتصارًا جبارًا على سُلطان الشياطين، إذ جرى ضربها في الصميم وفضحها نجاسةً غير شريفة، وعبادة أوثان، وتعطُّشًا للدماء. ونجد في سفر أعمال الرُّسُل في الإنجيل ميثاق هذه الاتفاقية. (أعمال 15: 1– 31)

بداية حقبة الكنيسة الأولى بعد الرُّسُل

ليست هناك سنة معينة تحدد الفاصل الزمني بين السنين الأولى للكنيسة والرُّسُل، وبين المرحلة الانتقالية التي حصلت لاحقًا التي يتناولها هذا الكتاب. غير أن الوقت الذي وصلت فيه الكنيسة المسيحية–اليهودية الأولى إلى نهايتها في سنة 70م، عندما دُمِّرَتْ أورشليم واليهودية من قِبَل الرومان، يعطينا تاريخًا تقريبيًّا لذاك الفاصل الزمني‏. فبمجرد بضع سنوات قبل ذلك التاريخ، ‏ اجتاز يعقوب، الرسول الموثوق به، والراعي الكنسي للجماعات المؤمنة في أورشليم لأكثر من ثلاثين عامًا، بعذاب الموت والاستشهاد، وهكذا كان الحال مع الرَّسُولين بولس وبطرس، اللذين أدرَّتْ خدمتهما بأكثر الثمار بالمقارنة مع بقية رسل أورشليم الآخرين. لذلك تتكلم المراجع في هذا الكتاب عن الزمن الذي جاء بعد موت يعقوب الرسول، وبعد نهاية أورشليم، وبعد استشهاد بولس وبطرس الرسولين.

ولقد تخللت شهادة الكنيسة الأولى في أورشليم وشهادة رُسُلها كل تلك الحقبة الزمنية اللاحقة وامتدت ‏إليها، لِمَا كان لها من قوة. فالاستمرارية في الروح الأصلية المستوحاة من المسيح، أظهرت نفسها في ‏العناصر الأساسية لكنيسة أورشليم والمُتمثِّلة في: الرسالة المسيحية المعلنة بواسطة الرُّسُل، وما كتبوه عن ‏أعمالهم، والكتابات اليهودية القديمة، وكتاب العهد الجديد (أيْ الإنجيل)، والأهم من كل ذلك، موقف ‏الرُّسُل الحازم في وجه الروح الوثنية للنظام القائم حواليهم.‏

غير أن الشهادة القوية للكنيسة الأولى صارت أقوى من السابق بشكل مذهل، لأن الكنيسة (بمسيحيتها ‏اليهودية الأولى) استشهدت وأُبيدت في الحربين الضاريتين اللتين شنتهما روما على اليهود، في سنة 70م ‏وسنة 135م. أمَّا اضطهاد المسيحيين الذي أعقب ذلك الزمن، فقد بدأه اليهود الذين تحوَّلوا إلى التعصُّب ‏نتيجة هاتين الحربين. إلاَّ أن شهادة الكنيسة الأولى صارت أكثر قوة وأكثر إلهامًا لجميع الأجيال، ‏بفضل استشهاد المسيحيين الأوائل المشابه لاستشهاد المسيح، إذا جاز التعبير.‏


المقالة مقتطفة من كتاب «شهادة الكنيسة الأولى»