My Account Sign Out
My Account
Morning over the bay

الخدمة التي يقدمها العزاب

بقلم يوهان كريستوف آرنولد Johann Christoph Arnold

4 أغسطس. 2023
0 تعليقات
0 تعليقات
0 تعليقات
    أرسِل

قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «إِنْ كَانَ هَكَذَا أَمْرُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، فَلاَ يُوافِقُ أَنْ يَتَزَوَّجَ!» فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ الْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هَذَا الْكَلاَمَ بَلِ الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم، لأَنَّهُ يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هَكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ النَّاسُ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ.» (متى 19: 10–12)

إنَّ عطيَّة الوحدة، سواء كانت مع المؤمنين الآخرين أو مع الله، لا تتوقف بأيِّ حال من الأحوال على الزواج أو على الحالة الاجتماعيَّة للشخص. وفي الحقيقة، فإنَّ العهد الجديد (أي الإنجيل) يعلِّم بأنه يمكن الحصول على تكريس أعمق للمسيح بالتَّخلِّي عن الزواج لأجل ملكوت الله. وقد أعطى الرب يسوع وعدًا عظيمًا للذين يتخلون عن كل شيء لأجله، بما في ذلك عطيَّة الزواج: فسيكون الرب قريبًا منهم بصفة خاصة عند رجوعه. (راجع رؤيا 14: 1–5) وإنَّ مثل هؤلاء الناس يجدون أنفسهم بدون شريك حياة، إمَّا بسبب هجران الزوج أو موته، وإمَّا بسبب غياب فرص سانحة للزواج. إلاَّ أنهم يمكنهم من خلال حياتهم هذه الحصول على دعوة إلَهِيَّة أعظم بكثير من الزواج، إذا قَبِلَوا بعزوبتهم من صميم قلوبهم. ففي وسعهم تكريس حياتهم بطريقة مُتَميِّزة للخدمة من كل قلوبهم لأجل ملكوت الله.

أن تحيا الحياة بكل ملئها معناه أن تحيا للمسيح

يجب على كل رجل أو امرأة على وجه الأرض ممن يريد اِتِّباع المسيح أن يرضى بأن يغيِّره المسيح تغييرًا كاملاً. ويتخذ هذا التحدي معنى أعمق للعُزَّاب الذين يتحملون عزوبتهم لأجل المسيح — مهما كان سبب عزوبتهم. وسيحصل شخص كهذا على علاقة مُتَميِّزة مع الرب.

إنَّ الحياة التي يعيشها الإنسان لأجل المسيح هي الحياة بأفضل صورها، كما يقول يسوع المسيح في الإنجيل:

اَلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ، وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ، وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ. (يوحنا 10: 10)

ويجب علينا نحن المسيحيين أن لا ننسى ذلك أبدًا؛ فهي أسمى دعوة إلَهِيَّة لنا. فإذا كُنَّا نحب المسيح العريس حقًّا من كل قلوبنا، فسننغمر فيه كما ننغمر في مياه المعمودية. وإذا كُنَّا نحيا في المسيح، فستعمل محبتنا له على إظهار الكيفية العملية لنا التي ينبغي بها أن نحب إخوتنا وأخواتنا المسيحيين وجميع الذين حولنا.

إنَّ قصة القديس فرنسيس الأسيزي Francis of Assisi وصداقته مع القديسة كلير Clare تظهر لنا بشكل رائع أهمية وعظمة المحبة الأخوية في المسيح — حتى لو لم تؤدِ إلى زواج. فعندما هجره جميع الإخوة والأصدقاء، التجأ فرنسيس إلى كلير. ووجد فيها الصديق الذي أمكنه الاعتماد عليه. وبقيت كلير على وفائها له حتى من بعد وفاته، واستمرَّت تحمل رسالته، برغم ما لاقته من معارضة. فنرى هنا علاقة لا شأن لها بالزواج، ولكنها ظلت حميمة بصدق — وهي علاقة صداقة ذات عفاف حقيقي ووحدة حقيقية في الله.

سيبقى هناك دائمًا رجال ونساء من أمثال كلير وفرنسيس، الذين يبقون بلا زواج لأجل المسيح. ومع ذلك، علينا أن ندرك أن موهبة العزوبة هذه لا توهب للجميع، مثلما يُبيِّن لنا ذلك القديس بولس الرسول في الإنجيل:

لأَنِّي أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النَّاسِ كَمَا أَنَا. لَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ مَوْهِبَتُهُ الْخَاصَّةُ مِنَ اللهِ. الْوَاحِدُ هَكَذَا وَالآخَرُ هَكَذَا. (1 كورنثوس 7: 7)

لا يختلف معظم العُزَّاب عن غيرهم من المتزوجين في الصراع مع الخطيئة من أجل العفاف. وذلك لأن حياة التَّبَتُّل هي الأخرى ليست ضمانًا واقيًا من النجاسة الجنسيَّة — لأن العفاف يتطلب يقظة مستمرة في قلب كل عازب وفي قلب كل متزوج، ويتطلب معركة روحيَّة يومية مع الجسد وشهواته، ويتطلب ‏موقفًا حازمًا في وجه الخطيئة.

يسوع قادر على مَلءِ كل فراغ إذا سمحنا له بذلك

لم تُقدِّم الكتب المُقدَّسة إلينا أيَّ وعود بإزالة تجارب إبليس عَنَّا مُطلقًا. ولكننا لدينا ضمان في الإنجيل على وجه أكيد بأنه ليس من الضروري أن يكون للتجارب القابلية على التغلب علينا:

لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلاَّ بَشَرِيَّةٌ. وَلَكِنَّ اللهَ أَمِينٌ الَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ التَّجْرِبَةِ أَيْضًا الْمَنْفَذَ لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا. (1 كورنثوس 10: 13)

فإذا ثبتنا بصبر وأمانة فسيعيننا الله. ولا نقصد هنا بأنه يمكننا حفظ أنفسنا بعفاف بفضل مجهودنا البشري. لأنه لا يمكننا الحصول على التحرر والانتصار على الخطيئة إلاَّ بفضل قوة الروح القدس، ومن خلال مساعدة الأصدقاء الغيورين ومساعدة أفراد الأسرة. كما يوصينا الإنجيل:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ، نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا. اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهَكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ. (غلاطية 6: 1–2)

أمَّا الذين لا يجدون شريك زواج، وفي الوقت نفسه لا يحسُّون بأيِّ دعوة إلَهِيَّة لهم شخصيًّا للتبَتُّل من أجل المسيح، فيكونون مُعرَّضين لخطر الوقوع في فخ الاستياء المرير، والاغتياظ النفسي. فإذا بقي التشوُّق الشديد للزواج بلا تحقيق، ولاسِيَّما على مدى طويل، فمن الممكن له أن يقسِّي القلب. عندئذ ليس هناك سوى نعمة الله القادرة على حماية النفس من الأعراض السلبية، وترك فكرة الزواج هذه — أيْ بمعنى التَّخلِّي عن الزواج والحصول على سلام الروح في آن واحد.

وتُقدِّم إلينا سِنثيا Cynthia، وهي امرأة عزباء في عمر الأربعينيات، رؤيتها عن كيفية تَجنُّب حياة الفراغ والحصول على سعادة دائمة، فتقول:

«ماذا؟ أنا؟ هل أظل عزباء إلى نهاية عمري؟» فالكثير مِنَّا يجب أن يواجه هذه الحقيقة. ولكن لماذا؟ — لأننا أخترنا أن نُكرِّس حياتنا لله أولاً. فيحتاج الله إلى أدوات ليست مُقيَّدة بأُسرة لكي تخدمه. أيعني هذا سعادة أقل، أم توقُّفًا عن النمو، أم انسحابًا من الاتصال الكامل بالحياة؟ لا، أبدًا، فهذا لا يحصل عندما يقبل المرء خطة الله لحياته، بدلاً من أن يتمرَّد عليها. وفي الواقع، إنَّ الحياة المُكرَّسة للخدمة هي بانتظار أولئك الذين يُضحُّون بالزواج، أو يرفضونه، لجعل أنفسهم رهن إشارة الله كُليًّا.

لنتأمل حياة بعض العُزَّاب أمثال الكاتبة إيمي كارمايكل Amy Carmichael التي سافرت إلى الهند كمُرسَلة شابة، ولم تعرف أيَّ نوع الخدمة التي كان الله يريد منها. وسرعان ما أصبح لها ميتم يتزايد عدده، وكان قوامه من الأطفال الذين تم إنقاذهم من عبودية حقيقية كامنة في براثن كهنة المعابد الهندوسية. أو لنتأمل الأم تيريزا التي أسست نظام رهبنة للأخوات لرعاية أفقر الفقراء في كلكتا في الهند. وقد انتشرت رهبنتها في كافة أنحاء العالم. أو لنتأمل الرسول بولس وغيره من الرسل الذين عاشوا حياة التَّبتُّل، فقد كانت لديهم إمكانية السفر المتواصل لنشر بشرى الإنجيل.

بطبيعة الحال، أنت لست بحاجة إلى أن تصبح مُرسَل، أو راهب، أو رسول، للحصول على السعادة في حياة العزوبة. فأنا شخصيًّا، كان من الممكن أن أشعر بمرارة الاستياء، وخيبة الأمل، لأني لم أتزوج، ولكني وجدتُ بدلاً من ذلك فُرصًا وفيرةً لخدمة الآخرين على صعيد يومي، وأينما كنتُ أسكن.

فأنا أزور نزيلات السجن المحلي كل أسبوع تقريبًا. ووجدتُ في زيارتي الأخيرة أن النساء متحمسات لقراءة وتأمُّل الكتاب المُقدَّس. فقرأنا قصة السامري الصالِح وتحدثنا عن تطبيقاتها اليومية. وبعد مناقشة عمَنْ تقدر أو لا تقدر أن تُرنِّم، اشتركنا كلنا في ترنيم الترانيم الروحيَّة للأفريقيين الأمريكيين المعروفة باسم Spirituals وأيضًا التراتيل الكنسية مثل «الرب الغالي Precious Lord» وَ «النعمة المدهشة Amazing Grace

بطبيعة الحال، لم تكُن جميع أمسياتي جميلة ومُشجِّعة بهذه الطريقة. فيمكن التحسس بمشاعر الحزن والفراغ بسبب الوحدانية كواقع ملموس في حياة أيِّ شخص عازب. وقد تصبح هذه الوحدانية تجربة من تجارب إبليس للإيقاع بنا في فخ الإشفاق على الذات، والتدهور النفسي، ولكن يمكننا رفضها مثل أيِّ تجربة أخرى. وتنصحنا الكاتبة اليزابيث اليوت Elisabeth Elliot في كتابها «العاطفة والعِفَّة Passion and Purity،» فتقول: «اِقبلي وحدانيتكِ. فهي مرحلة واحدة، وما هي سوى مرحلة على طريق الرحلة التي تأخذكِ إلى الله. وهي لا تدوم دائمًا. وقَدِّمي وحدانيتكِ قربانًا إلى الله، مثلما قدَّم الصبي الصغير الأرغفة الخمسة والسمكتين إلى يسوع المسيح.[1] أمَّا الله فهو قادر على تحويل وحدانيتكِ إلى ما هو صالِحٌ للآخرين. وأهم من كل شيء، اِفعلي أيَّ شيء خيِّر لأيِّ إنسان غيركِ!»

نجد هنا الحلَّ لهذه المشكلة وهو: خدمة الآخرين. فبإمكان الخدمة على اختلاف أنواعها أن تنعم بحياة سعيدة ومُفرِحة يرتاح لها الضمير على الشخص الذي يُقدِّمها، سواء كانت الخدمة بالعمل في مجال التعليم، أو التمريض، أو الإرشاد الاجتماعي، أو زيارة السجناء. لأنه هناك فيض كبير من المتألمين في العالم في أمس الحاجة إلى لمسة إضافية من أعمال المحبة والرحمة. ونحن العُزَّاب أحرارٌ بطريقة فريدة لنكون موجودين من أجل خدمتهم.

إنَّ عملية التَّخلِّي عن الأمنيات الشخصيَّة ليست سهلة أبدًا، وأحيانًا تُلقي عبئًا ثقيلاً للغاية على الشخص. ولكن الأمر يختلف عندما يتنازل العُزَّاب عن أمنياتهم وأحلامهم كُليًّا لأجل الله، إذ يملأ الرب يسوع حينئذ الفراغ الذي قد يُشكِّل عبئًا عليهم. لأنهم يتذكرون كيف اختتم يسوع المسيح حياته على الصليب، ويحصلون عندئذ على سرور في تحمُّل العزوبة قربانًا له. أمَّا الذين يستمرون في اشتياقهم إلى الزواج، رغم أن الله لم يهبه لهم، فلا يمكنهم الحصول على هذا السرور أبدًا. وبطبيعة الحال، إنَّ الزواج موهبة عظيمة، إلاَّ أن موهبة الانتماء كُليًّا إلى المسيح بقلوب غير مُنقسِمة، أعظم من موهبة الزواج.

في آخر الأمر، علينا كلنا — سواء كُنَّا متزوجين أو عُزَّابًا‏ — أن نكون على أهبة الاستعداد ليستعملنا الله كيفما هو يشاء، وأن نفرح بكل حال نكون عليه، كما يعلمنا الإنجيل:

لَيْسَ أَنِّي أَقُولُ مِنْ جِهَةِ احْتِيَاجٍ، فَإِنِّي قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيهِ. أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ، وَأَعْرِفُ أَيْضًا أَنْ أَسْتَفْضِلَ. فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ، قَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ. أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ، فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي. (فيليبي 4: 11–13)

ويجب أن لا نظنَّ أبدًا أن الله لا يحبنا. فمثل هذا الظنِّ من الشيطان.

مما لا شك فيه أن العازب (هو أو هي) سيبقى يصادف لحظات وأيام بل حتى أسابيع من الحزن والصراع الروحي أثناء حياته، بغض النظر عن مقدار التكريس الذي يُقدِّمه لله. لأن إدراك الشخص بأن كل من الزواج والأولاد صاروا بعيدي المنال، سيجلب معه دائمًا غصة الشوق وإحساسًا بالخسارة. وبدلاً من المكوث في هذه المشاعر، فمن الأفضل له أن يركِّز بصره الروحي على الله، والالتفات إلى الإخوة والأخوات في الكنيسة طلبًا للدعم والمعونة والتعزية الروحيَّة، حتى لو كان ذلك صعبًا. ويكتب ديتريش بونهوفر من زنزانته في السجن وهو ينتظر عقوبة الإعدام في ألمانيا الهتلرية، فيقول:

إنَّ الألم ملاك مقدس، وهو يرينا الكنوز التي لولا الألم لظلت مدفونة إلى الأبد؛ فبفضل الألم أصبح كثير من الرجال والنساء أعظم مما لو كانوا قد مرُّوا بكل أفراح العالم. فلابد أن يكون الأمر هكذا، وهذا ما أُذكِّر به نفسي باستمرار، ولاسِيَّما وأنا في ظروفي الحالية. فألم المعاناة والحنين الذي غالبًا ما يمكن التحسس به جَسَديًّا أيضًا، هو جزء من الحياة، ولا يمكننا إزالته عن طريق التحدُّث عنه، بل لسنا بحاجة إلى إزالته أيضًا. غير أننا بحاجة إلى أن ننتصر عليه في كل مرة، وبالتالي، هناك أيضًا ملاك أكثر قداسة من ملاك الألم؛ ألا وهو ملاك الفرح بالله.

يمكن تقبُّل العزوبة إمَّا كعبء وإمَّا كدعوة إلَهِيَّة سامية

ينبغي أن لا يقع العُزَّاب، من رجال ونساء، في فخ مجافاة الحياة ومجافاة المحبة باستياء شديد. وعليهم أن لا يخنقوا أطيب الخصال في نفوسهم، ولا يستسلموا للأحلام أو للشهوات التي لا يمكن إشباعها. ويجب عليهم أن لا يدعوا الأوهام والتخيُّلات التي تدور حول الذات، تعيق إزهار كل ما وهب الله لهم، لكيما ينبت ويتفتَّح في حياتهم. فإذا أُتيح لهم أن يقبلوا عزوبتهم كموهبة إلَهِيَّة أو كدعوة إلَهِيَّة مُتَميِّزة، لَمَا سمحوا لأيِّ قدر من طاقتهم أو محبتهم بأن يضيع سدى دون أن يُستعمَل. فستشبع أشواقهم بفضل العطاء الذي يُقدِّمونه بسخاء: أيْ بمعنى ذلك الجدول المُتدفِّق من المحبة، المحبة التي تتحوَّل من الانشغال بالذات إلى الانشغال بالمسيح، وبالكنيسة. كما يقول الرسول بولس في الإنجيل:

فَأُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا بِلاَ هَمٍّ. غَيْرُ الْمُتَزَوِّجِ يَهْتَمُّ فِي مَا لِلرَّبِّ كَيْفَ يُرْضِي الرَّبَّ، وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجُ فَيَهْتَمُّ فِي مَا لِلْعَالَمِ كَيْفَ يُرْضِي امْرَأَتَهُ. إِنَّ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَالْعَذْرَاءِ فَرْقًا: غَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ تَهْتَمُّ فِي مَا لِلرَّبِّ لِتَكُونَ مُقَدَّسَةً جَسَدًا وَرُوحًا. وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجَةُ فَتَهْتَمُّ فِي مَا لِلْعَالَمِ كَيْفَ تُرْضِي رَجُلَهَا. هَذَا أَقُولُهُ لِخَيْرِكُمْ، لَيْسَ لِكَيْ أُلْقِيَ عَلَيْكُمْ وَهَقًا بَلْ لأَجْلِ اللِّيَاقَةِ وَالْمُثَابَرَةِ لِلرَّبِّ مِنْ دُونِ ارْتِبَاكٍ. (1 كورنثوس 7: 32–35)

في الرسالة الإنجيلية أعلاه نفسها، وفي آية سابقة، يشير الرسول بولس إلى بركة أخرى للعزوبة وهي: التحرر من الرعاية والقلق على الزوج، أو الزوجة، أو الأطفال، خصوصًا في أوقات الضيق. فيقول:

لَكِنَّكَ وَإِنْ تَزَوَّجْتَ لَمْ تُخْطِئْ. وَإِنْ تَزَوَّجَتِ الْعَذْرَاءُ لَمْ تُخْطِئْ. وَلَكِنَّ مِثْلَ هَؤُلاَءِ يَكُونُ لَهُمْ ضِيقٌ فِي الْجَسَدِ. وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُشْفِقُ عَلَيْكُمْ. (1 كورنثوس 7: 28)

والأرامل شأنهُنَّ في ذلك شأن العَزْباوات، فإنَّهُنَّ قادرات أيضًا على خدمة الكنيسة والمحتاجين في أحيان لا يسع للمتزوجة أن تقوم بهذه الخدمة. ويقول بولس الرسول:

وَلَكِنَّ الَّتِي هِيَ بِالْحَقِيقَةِ أَرْمَلَةٌ وَوَحِيدَةٌ، فَقَدْ أَلْقَتْ رَجَاءَهَا عَلَى اللهِ، وَهِيَ تُواظِبُ عَلَى الطِّلْبَاتِ وَالصَّلَوَاتِ لَيْلاً وَنَهَارًا. (1 تيموثاوس 5: 5)

وفي الكنيسة الأولى في أورشليم، تم تعيين الأرامل لخدمة الفقراء، أو عُهِدَتْ إليهن بمسؤوليات أخرى، مثلما مدون في إحدى كتابات المسيحيين الأوائل كما يلي:

كان على المشرف حتى في أصغر مجتمعات الكنيسة أن يكون صديقًا مُحِبَّا للفقراء، وخُصِّصتْ أرملة واحدة على الأقل لتكون مسؤولة ليلاً ونهارًا عن متابعة ما إذا كان هناك مريض أو محتاج قد أُهمِلت رعايته.

ولكن كم يحزننا عندما نرى في يومنا المعاصر أن الأرامل والعُزَّاب من رجال ونساء — هم أنفسهم — مُهْمَلين ووحيدين في أكثر الأوقات! ولَعَلَّ الكنيسة على استعداد دائمًا لتلبية حاجات مثل هؤلاء الناس، كما يوصي الإنجيل:

فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ. (1 كورنثوس 12: 26)

يجب علينا الآن، ولاسِيَّما في زمان انهيار الأسرة وتفكُّكها، أن نجد وسائل جديدة لكي نُظهِر للعُزَّاب والأرامل في مجتمع الكنيسة، محبة وعناية إضافية، وأن نفتح أبواب أُسَرنا وبيوتنا لكي تحتضنهم وتضُمَّهم إليها، لكيلا يبقوا وحيدين بدون أسرة، إضافة إلى ضرورة جعلهم ينخرطون في فعاليات الأسرة والكنيسة بشكل فعال ومؤثر. ولا يعني هذا أن نسلِّط ضغطًا عليهم لكي يجدوا شريك حياة، ثم نرثي لهم إذا لم يجدوه — فهذا لن يؤدي إلاَّ إلى زيادة آلامهم. ولكن إظهار المحبة لهم معناه الترحيب بمواهبهم وبخدماتهم في مجتمع الكنيسة، وتسليمهم مهام مفيدة، وشدُّ عزائمهم إلى الحياة الروحيَّة للكنيسة، لكي يحِسُّوا بسعادة الروح.

كلنا مدعوون إلى المحبة مهما كانت أحوالنا الشخصيَّة

ينبغي أن ندرك نحن المتزوجين بأن سعادتنا هي عطيَّة إلَهِيَّة مجانية — فكما أخذنا الفرح مجانًا، هكذا ينبغي أن نشيعه بين الآخرين مجانًا أيضًا، من خلال أعمال الرحمة، وتخفيف آلام المتألمين. لذلك علينا أن نتشوَّق إلى إبداء أعمال المحبة لِمَنْ يصارع مع مشاعر الوحدانية المحزنة. ولهذا السبب يجري «تبني» — لو جاز التعبير — كل عازب وكل عزباء في كنيستي من قِبل أسرة معينة. لذلك يتمكَّن العُزَّاب في هذه الحالة من الأخذ والعطاء في آن واحد. وأهم نقطة في الموضوع هي أننا ينبغي أن نتذكَّر كلنا، سواء كُنَّا متزوجين أو عُزَّابًا‏، أن الفرح الروحي ورضا النفس نحصل عليهما عن طريق خدمة بعضنا لبعض بروحيَّة الحياة الأخوية المشتركة المتضامنة. فنحن مدعوون إلى محبة تعطي بسخاء وبلا قيد أو شرط — لا إلى محبة بخيلة يتصف بها زواج مريح، ولا إلى محبة منغمسة بالإشفاق على الذات، التي يعزل الإنسان فيها نفسه عن الآخرين.

ونحن كمسيحيين، نعلم بأن المحبة الحقيقية في أكمل صورها وُجِدت في يسوع المسيح. وكثيرون مِنَّا تأثَّروا بالمسيح، أو دعاهم المسيح، أو سخَّرهم. ولكن هذا لا يكفي. فعلى كل فرد مِنَّا التضرُّع لله لاختبار المسيح شخصيًّا — وفي أعماق قلوبنا. وعلينا أن نثبِّت بصرنا الروحي عليه، ولا ننظر إلاَّ إليه، لكي نتمكن من رؤيته على حقيقته المليئة بالمحبة، ولكيلا تضعف نفوسنا ونفقد عزيمتنا، مثلما يدعونا الإنجيل:

نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ. فَتَفَكَّرُوا فِي الَّذِي احْتَمَلَ مِنَ الْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هَذِهِ، لِئَلاَّ تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ. (عبرانيين 12: 2–3)

نحن نعلم بأن أمد الحياة قصير على الأرض، وبأن العالم في هيئته الحاضرة زائل، كما يدعونا الرسول بولس لنتيقظ لهذا الأمر في الإنجيل فيقول:

فَأَقُولُ هَذَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ: الْوَقْتُ مُنْذُ الآنَ مُقَصَّرٌ، لِكَيْ يَكُونَ الَّذِينَ لَهُمْ نِسَاءٌ كَأَنْ لَيْسَ لَهُمْ، وَالَّذِينَ يَبْكُونَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَبْكُونَ، وَالَّذِينَ يَفْرَحُونَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَفْرَحُونَ، وَالَّذِينَ يَشْتَرُونَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ، وَالَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا الْعَالَمَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَعْمِلُونَهُ. لأَنَّ هَيْئَةَ هَذَا الْعَالَمِ تَزُولُ. (1 كورنثوس 7: 29–31)

وما نحن في أمس الحاجة إليه في وقتنا الحاضر هو المسيح، ولكن ليس باعتباره مجرد مرشد أو صورة نعلقها أمام أعيننا. فيجب علينا أن ندعه يصبح واقِعًا حيًّا في حياتنا اليومية. فقد قال المسيح:

جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا عَلَى الأَرْضِ، فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟ (لوقا 12: 49)

فأين يتجلَّى المسيح بأشد وضوحه، كما كان يتجلَّى سابقًا، ويتجلَّى لحدِّ الآن؟ فيجب علينا البحث عنه مع إخوتنا وأخواتنا المسيحيين. ويجب أن نصلِّي بحرارة لكي يتجلَّى المسيح في وسط مجامعنا اليوم وكل يوم. وعلاوة على ذلك، يجب أن نصلِّي من أجل أن يهبنا الله الشجاعة لنشهد لحقيقته أمام الآخرين، حيث في طبيعته الإلَهِيَّة رِقَّة، ووداعة، وتواضع، ولكنها تحتوي أيضًا على حقٍّ، ووضوح، وعدم مساومة. ويجب أن لا نضيف أو نحذف أيَّ شيء من إنجيله. فهذه هي جوهر شهادة القلب المُوَحَّد لكل مؤمن، وجوهر الخدمة التي يُقدِّمها الوحيدون بدون شريك حياة.

 

المقالة مقتطفة من كتاب: «دعوة إلى حياة العِفَّة والنقاوة»



[1] في إشارة إلى الآية التي قام بها يسوع المسيح في تكثير الأرغفة الخمسة والسمكتين وإطعام خمسة آلاف شخص جائع بعد تعليمهم أشياء كثيرة. (راجع يوحنا 6: 1–15)

closeup of white rose
0 تعليقات